ميشال طوق

رمزي عيراني: للبطولة عنوان

عشرون من أيار… تاريخ محفور في ذاكرة الوطن لا يُمحى.

في مثل هذا اليوم من عام 2002، خُطف رمزي عيراني، أحد أنبل أبناء لبنان وأكثرهم شجاعة، واغتيل على يد الاحتلال السوري، خوفًا من الحق والحقيقة. واليوم، بعد ثلاثة وعشرين عامًا على تلك الجريمة الشنعاء، وبعد سقوط النظام الذي سفك الدم اللبناني بلا حساب، نقف بكل إجلال ووجع، لنجدد العهد للحق، ولمن وهبوا أرواحهم في سبيله.



لم يكن رمزي عيراني مجرد ناشط طلابي، ولا عضوًا عاديًا في صفوف حزب القوات اللبنانية. كان صوتًا حرًا، وعقلًا وطنيًا، وضميرًا حيًّا لا يرضى بالذل ولا يقبل بالنسيان. آمن بأن لبنان لا يمكن أن يُبنى تحت الاحتلال، وأن الاستقلال لا يُستجدى، بل يُنتزع، كما كان يقول البطريرك صفير. فوقف، بشجاعة نادرة، في وجه أعتى الأنظمة الأمنية وأكثرها وحشية، وصرخ: “الحرية حق، والسيادة لا تُجزّأ."



في زمنٍ ساد فيه الصمت، ارتفع صوته. في وقتٍ خاف فيه الجميع، كان وجهه ظاهرًا في كل تظاهرة، وكان اسمه يدوّي في كل ساحة، وكان علم لبنان يرفرف فوق كتفيه. لم يخف التهديد، ولم يساوم على المبدأ، ولم يساير أحدًا، لا في الخفاء ولا في العلن.



في السابع من أيار 2002، خُطف رمزي من قلب بيروت في وضح النهار. أسبوعان من الصمت الرسمي والتواطؤ الأمني انتهيا بكشف الجريمة البشعة. لم يكن ذلك الاغتيال مجرد جريمة فردية، بل إعلان حرب على كل لبناني حر. اغتيال رمزي لم يكن فقط كتمًا لصوته، بل محاولة يائسة لاغتيال حلم بأكمله، حلم لبنان الحر المستقل.



لكن القتلة لم يحسبوا أن الدم لا يُمحى، وأن صوت الحرية لا يُدفن. لم تبدأ أي تحقيقات جادة، ولم يُقدَّم أحد للعدالة، وكأن رمزي كان رقمًا لا اسمًا. واليوم، بعد أن سقط النظام الذي أمر بخطفه، وبعد أن انهارت زنازينه وقصوره، و بعد أن هرب قادته كالفئران نقول: لن يُطوى هذا الملف، ولن يسقط حقّ بالزمن، والعدالة أتت، ولو بعد حين. ومع هذا السقوط، تُفتح أبواب الحقيقة من جديد، وتُكسر جدران الصمت. من حق رمزي، ومن حق أهله، ومن حقنا جميعًا أن نعرف: من خطفه؟ من نفذ جريمته؟ الحق لا يموت، وصاحب الحق لا يُهزم.



اليوم، ونحن نحيي ذكرى استشهاد رمزي، لا نريده فقط احتفالًا رمزيًا ولا مجرد شعارات. نريده وعدًا بالوفاء، والتزامًا بالعدالة. نريد فتح التحقيق، وتوثيق الجريمة، ومحاكمة كل من تورّط، سياسيًا أو أمنيًا أو بالصمت. نريد أن يكون رمزي درسًا في كل مدرسة، واسمه محفورًا في كل شارع، وصورته حاضرة في كل بيت حرّ. نريد أن نعلم أولادنا أن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع. أن رمزي لم يمت، بل انتقل إلى ذاكرة الوطن، إلى ذاكرة المقاومة الحقيقية، التي لا تباع ولا تُشترى.



رمزي عيراني هو من جيلٍ آمن أن لبنان يستحق التضحية. جيل قاوم الاحتلال السوري يوم كان الاحتلال يُفرض كأمر واقع. جيل رفع الرأس، ورفض الانبطاح، ودفع الثمن كاملاً: حياة شاب في ريعان الطموح، حلم لم يُكمل، مستقبل قُطع في منتصف الطريق. لكن من دم رمزي ورفاقه، وُلد لبنان الجديد. لبنان الذي طرد الاحتلال، وواجه الوصاية، وأسقط الأصنام. واليوم، حين يسقط النظام الذي قتله، يعود اسمه ليتقدّم الصفوف، ويذكّرنا أن النصر قد يتأخر، لكنه لا يُلغى.



فلنُحيي رمزي كل يوم. لا بتمثالٍ أو لوحةٍ فقط، بل بموقف، وبسؤال: هل نحن أوفياء لمن سبقونا؟ هل نكمل المسار الذي دفعوا دماءهم في سبيله؟ هل نجرؤ على رفع الصوت كما فعل، والوقوف كما وقف، والتضحية كما ضحى؟



إن كنا نريد لبنانًا حرًا، سيدًا، عادلًا، فلا بد أن نُكمل رسالة رمزي. أن نحفظ ذكراه، ونُحاسب قاتليه، ونعيد للعدالة معناها.

الحق لا يموت، وصاحب الحق ينتصر لا محالة.

انتصر رمزي، هُزم الأسد، وعاش لبنان سيّدًا حرًّا مستقلًّا.