د. ميشال الشماعي

الصلاحيات المستورة

23 تشرين الأول 2020

02 : 00

لا شكّ أنّ وثيقة الوفاق الوطني التي وقّعت في اتّفاق الطائف وتحوّلت دستوراً، لم تنفّذ كما اصطلح عليه. بل الأكثر من ذلك، نفّذتها سلطات الإحتلال السوري بطريقة مُعتَوِرة لتحكم قبضتها أكثر بالطريقة الدستورية على ما تبقّى من دولة ومؤسسات لبنانية. وأبرز ما تمّ في هذه الوثيقة، هو سحب الصلاحيات التي كانت منوطة برئيس الجمهورية، ووضعها بيد مجلس الوزراء مُجتمعاً. وفي ذلك تطمين كياني للطائفة السنيّة التي لطالما شعرت بالغبن الدستوري في الميثاق الوطني.

لينتقل الصراع إلى المكوّن الشيعي المنتفخ ديموغرافياً، والذي عمل على تغليب قواه العسكرية من خلال تملّكه السلاح غير الشرعي بدعم من الإحتلال السوري، لينقضّ بدوره بالطريقة نفسها على الدولة والمؤسسات اللبنانية. إضافة إلى ذلك، كانت منظّمة التحرير (مكوّن حضاري سني) عطّلت طوال الفترة الممتدّة من العام 1969 حتى العام 1985 مفاعيل القانون بقوّة السلاح غير الشرعي في لبنان، وكان ذلك بمعاونة المبعوث الخاص فيليب حبيب، وتحت حماية قوات حفظ السلام الدولية.

واليوم، منذ أيار 2008، يلعب "حزب الله" الدّور نفسه في صلب المكوّن الشيعي مع باقي المكوّنات الحضاريّة. فهو يبطل مفاعيل القانون والديموقراطيّة بقوّة سلاحه غير الشرعي، وعندما يتمّ حشره يستخدم وهج هذا السلاح فيسيّله في السياسة، لا سيما بممارسته وحليفه نهجاً ديموقراطياً جديداً اصطلحت شخصياً على تسميته في كتاباتي: "الديموقراطيّة التعطيليّة". وتبقى الاشكالية الأساس التي تعطّل مفاعيل الحياة السياسية والوطنية كلّها، في إمكانية الثنائي المعروف بتكرار تجربة الطائف بالنسخة الشيعية هذه المرّة.

من هذا المنطلق، تحوّلت الصلاحيات من العلن إلى الضمور فالخفاء. حيث صار رئيس الجمهورية يمارس ما تبقى له من صلاحيات على قاعدة الديموقراطيّة التعطيلية عينها، فيهدّد علناً بعدم توقيع التشكيلة الحكوميّة مثلاً ليحسّن شروطه السياسية في التأليف قبل التكليف حتّى. وفي هذه المسألة ضرب بعرض الحائط لجوهر صلاحيات الرئيس نفسه، ناهيك عن التعدّي الفاضح على الديموقراطية البرلمانية الحقيقية، وتحت حجج وطنية واهية في كلّ مرّة. من هنا، لقد أرسى مطبّقو الدستور اللبناني نهج الديموقراطية التعطيلية، حيث لا يزال يملك الرئيس قدرة التعطيل بالارجاء في مرحلة التكليف، كذلك بالاعتراض في مرحلة التأليف. وهذه القدرة التعطيلية هي التي ستسمح دوماً بإعادة استنساخ السلطة السياسية عينها؛ وهذا ما نجحت به هذه الطغمة الحاكمة والمتحكّمة طوال عقود ثلاثة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يتمّ التغاضي علناً عن تعطيل توقيع مرسوم التشكيلات القضائية، وللهدف عينه، بينما المطلوب تفعيل آليات المحاسبة تماشياً مع أصوات الشارع اللبناني الثائر، ومع مطالبات المجتمع الدولي بالإصلاحات ومحاسبة الفاسدين. بينما يتمّ السير بأيّ مفاوضات حتّى لو كانت مع أعتى الأعداء، تماشياً للمصالح المشتركة: السياسية منها لفريق السلطة الملتزم بالمحور الإيراني، والاقتصادية - المصلحية للفريق المستأثر بصفقات الغاز الموعودة.

لذلك كلّه، ما وجب تصحيحه في الدستور لم يكن في باب الصلاحيات فحسب، بل في إبطال القدرة على التعطيل للتعطيل، مع ملاحظة الحقّ بتسجيل الموقف دستورياً وليس شكلياً. من هنا، ضرورة تصويب الأصوات المطالبة بتعديل الدستور لإكتساب المزيد من الصلاحيات نحو تفعيل هذا الدستور بتطبيقه، لا سيّما من حيث اللامركزية الموسّعة، والعمل على تفعيل مجالس الوحدات المناطقية لتحقيق اللامركزية الفعلية حتّى تصبح عندها السلطة المركزية، لا سيّما التنفيذية منها، أداة للعمل وليس للتعطيل. حتّى السلطة التشريعية باتت تهدّد نفسها بنفسها بتعطيل الإنتخابات، سواء في موعدها أو مبكرة، متى استعمل بعض النواب حقّهم الدستوري بالتعبير!

عدا ذلك، لن تستقيم عجلة الدولة بمؤسساتها، ولن تستطيع تفعيل قدرة المحاسبة لأيّ مؤسسة رقابية فيها على حساب القانون والديموقراطية. فهل سينقذ العهد نفسه من براثن ديموقراطيّته التعطيلية في الثلث الأخير قبل المثالثة ؟


MISS 3