عيسى مخلوف

الكتابة التي تصغي إلى هموم العالم

31 تشرين الأول 2020

02 : 00

أوكتافيو باث مع خورخي لويس بورخس

يقول الشاعر والباحث المكسيكي أوكتافيو باث، الحائز على جائزة نوبل للآداب: "إنّ أدباً بلا نقد ليس أدباً حديثاً". فممارسة النقد، بالنسبة إليه، لا تُبلور فقط الفعل الأدبي، وإنّما تمثّل أيضاً "الدفاع الوحيد ضدّ مونولوغ السلطة والمتسلّطين". النقد الأدبي، هنا، يواكب بالضرورة النقد الفكري والفلسفي، ولقد كان بعض الشعراء والكتّاب مفكّرين ونقّاداً، من شارل بودلير وأوسكار وايلد وفيرجينيا وولف إلى ت. س. إليوت وإيف بونفوا وأوكتافيو باث نفسه، وهذا الأخير هو أحد الوجوه الأدبيّة والثقافيّة البارزة في القرن العشرين، وكان شاهداً على أحداث طبعت هذا القرن ومنها الحرب الأهليّة الإسبانيّة، الحرب العالميّة الثانية، ولادة الأمم المتّحدة، ثورة الطلاّب العام 1968 وسقوط جدار برلين العام 1989.

الأدب الحديث، بحسب باث، هو أدب نقدي في المقام الأوّل. نقد العالم الذي نعيش فيه ونقد اللغة التي نستعملها للكتابة. في كتابه "القوس والقيثارة" اعتبر أنّ نقد اللغة إبداع لها، وهو مفتاح التجديد الدائم والخروج من الثبات. وفي كتاب بعنوان "مسار"، كشف عن خيبة أمل كبيرة ممّا آل إليه العالم ورهانه على استتباب الأمن والحرّيّة والديموقراطيّة. والتفت إلى الاستغلال المنظّم للثروات الطبيعيّة واستنفاد طاقاتها بطريقة غير مسبوقة، وإلى تزايد النزاعات والمجاعات والتطرّف وانتشار الأسلحة النوويّة. ولاحظ أنّ التوازن النووي إذا كان قد أنقذنا من حرب عالميّة ثالثة، فإنّ مجرّد وجود هذا الأسلحة هو تعطيل لحلمنا في التقدّم. وإذا كانت القنبلة النوويّة لم تدمّر العالم، فهي دمّرت تصوّرنا المثالي للعالم. واستنتج قائلاً إنّ شمس التقدّم تغيب عن الأفق ولا نعرف إن كنّا نعيش غسقاً أم فجراً. وهو، من خلال هذا التفكير، ضمّ صوته إلى أصوات الذين حذّروا من اختزال الحياة على الأرض إلى عمليّة عرض وطلب ومال واستهلاك. واعتبر أنّ حضارة الاستهلاك تبشّر بسعادة مرتبطة بقدرة الفرد على الشراء، لدرجة بات الاستهلاك هو شرط الحياة والوجود معاً. وبذلك أُلغي في الزمن الراهن التفكير في الموت الفردي - عبر الوسائل الإعلاميّة الحديثة والإعلانـات والعادات المستحدثة – ليحـلّ محلّه المـــوت الجماعي. من جانب آخر، يرى الكاتب المكسيكي أنّ تجديد أيّ مجتمع كان يقتضي بناء ديموقراطيّة فعليّة تساعد على التخلّص من وضعيّة التخلّف وانعكاساتها السلبيّة على عمليّة التقدّم.



رسالة من باث إلى الكاتب والناشر الفرنسي موريس نادو مكتوبة بخطّ يده



إنّ دراسة الحضارات القديمة والبيئة المحلّيّة، المكسيكيّة والأميركيّة اللاتينيّة على السواء، كانت الشرفة التي أطلّ منها باث على أسئلة العالم وقضاياه. وهو، بهذا المعنى، أحد الكتّاب الأميركيين اللاتينيين الذين جعلوا أدبهم، الذي تجري في عروقه دماء كثيرة، أدباً عالمياً بامتياز. فهذا الأدب لا يتميّز فقط بـ"واقعيّته السحريّة"، واللجوء إلى الشعر والأسطورة، والانشغال بفكرة الزمان والمكان، وكذلك بالأسئلة الفلسفيّة والماورائيّة، بل يتميّز أيضاً بوعيه لخصوصيّته التاريخيّة والثقافيّة، وباختزانه وجدان شعوب بأكملها، عبر عاداتها وتقاليدها وطقوسها وأحلامها، بالإضافة إلى استيعابه الثقافة الأوروبيّة وتفاعله معها وانفتاحه على التيّارات والتجارب المعاصرة.

في موازاة ذلك كلّه، كانت مواقف أوكتافيو باث السياسيّة منسجمة مع تطلّعاته وأفكاره. في الحرب الإسبانيّة، وقف إلى جانب الجمهوريّين، وكان من أوائل الذين قاطعوا الستالينيّة وحذّروا من أخطار الحكم الاستبدادي. وعندما كان سفيراً لبلاده في الهند العام 1968، قدّم استقالته احتجاجاً على سياسة الحكومة المكسيكيّة التي قمعت التحرّكات الطلاّبية وقتلت يومها زهاء ثلاثمئة طالب. في هذا السياق، وجّه باث انتقاداته لعدد من الشعراء والكتّاب من بينهم بابلو نيرودا "أقرب الأعداء إلى قلبه" ولْوي أراغون ورافاييل ألبرتي، وهؤلاء كانوا من الذين حملوا راية ستالين وأشاحوا النظر عن جرائمه ومعتقلاته الرهيبة.

في الالتفات إلى الأدب الأميركي اللاتيني وعدد من رموزه الأساسيين بعضُ العزاء، فهذا الأدب يمثّل أحد الدروس المهمّة في النظر إلى الواقع ضمن إطار إنسانيّ، وأيضاً في العلاقة بين الإبداع الأدبي والسياسة من دون أن يسقط الأدب في الخطاب السياسي وشعاراته.

لا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أنّ أوكتافيو باث شارك في بعض اللقاءات التي كانت تحييها الحركة السورياليّة في باريس، وهناك التقى الشاعر اللبناني باللغة الفرنسيّة جورج شحادة، وقد تناوله لاحقاً في أحد نصوصه وقال إنّه "كان يأتي دائماً ومعه باقة من الأمثال اقتطعها للتوّ من إحدى أشجار الفردوس".


MISS 3