في فجر 22 حزيران 2025، أطل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان مفاجئ - متوقع عن ضرب منشآت نووية حيوية في إيران: فوردو، نطنز، وأصفهان. الإعلان جاء مكللاً بوصف تدمير شامل، لكنه في جوهره لم يكن سوى حركة رمزية ضمن رقعة شطرنج دولية معقدة. هل يمكن حقًا اعتبار هذا التصعيد “نهاية اللعبة” في ملف إيران النووي؟ الجواب بعيد كل البعد عن البساطة.
هذه المنشآت ليست عشوائية، بل تمثل أركانًا حيوية في بنية البرنامج النووي الإيراني. فوردو، المحصن داخل أعماق الأرض، صُمم خصيصًا ليكون صعب الاستهداف وقوي التحصين، أما نطنز فهو مركز التخصيب الذي يشكل القلب النابض للبرنامج، في حين أن أصفهان تركز على الخطوة الأولية لتحويل اليورانيوم الخام إلى المادة الصالحة للتخصيب. استهداف هذه المواقع باستخدام أسلحة شديدة الاختراق يؤكد محاولة تعطيل عمليات دقيقة ومهمة، لكنه، وعلى الرغم من كل هذا، يبقى قاصرًا عن المدى الحقيقي للبرنامج.
المفاعل الأهم، المفاعل الذي لا يكشف عن ضخامته جولة واحدة من القصف، هو مفاعل أراك للماء الثقيل، الذي ينتج البلوتونيوم — العنصر الأكثر حساسية في صناعة السلاح النووي. مفاعل أراك، مع مراكز البحث والتطوير المنتشرة في كرج وطهران، هي مفاعلات الفكر والابتكار التي تبني قدرات إيران النووية ببطء، لكن بثبات. تدميرها يتطلب قرارًا سياسياً واستراتيجياً أكبر، ربما لم يُتخذ بعد.
وتكشف المعلومات المؤكدة أن ترامب، في خطوة غير معلنة رسمياً، سمح لنظام طهران بنقل مخزون اليورانيوم المخصب من منشأة فوردو قبل الضربة، ما يعكس جانبًا استراتيجيًا معقدًا في القرار الأمريكي. هذا التصرف يوضح أن الضربة لم تكن تهدف إلى تدمير شامل ونهائي، بل إلى إرسال رسالة سياسية محكومة بضوابط دقيقة، مع محاولة إبقاء خطوط التفاوض والسياسة مفتوحة، وهو ما يؤكد أن التصعيد عسكريًا لا يعني إغلاق الباب أمام الحلول الدبلوماسية.
من زاوية أخرى، من المؤكد أن الضربة العسكرية تعصف بالقدرات الفنية والإنتاجية لتلك المنشآت، لكنها في الوقت نفسه تُعزز من احتدام “روح الثورة” في إيران وحلفائها. فالرد النفسي والسياسي على هذا العدوان لا يقتصر على الدفاع، بل يتجسد في تحشيد داخلي يشدد قبضته الأمنية، ويُغلق مساحات المعارضة. حزب الله، الذي غالبًا ما يوظف هذه الأحداث كذريعة لتعزيز نفوذه في الساحة اللبنانية، سيعمل على “الصرف السياسي” لتحويل أية حالة ضعف إيرانية مفترضة إلى فرصة لتثبيت أقدامه، ليس فقط في لبنان، بل في مراكز القرار السياسي الإقليمي.
هذا التحول السياسي لا يقل خطورة عن الضربة العسكرية نفسها، بل قد يكون أخطر. فالقدرة على الصرف السياسي تعني أن الأزمات تصبح وقودًا لتوسع النفوذ وتحقيق مكاسب استراتيجية بطرق غير تقليدية. لذلك، الضربات العسكرية قد تقلص من قدراتهم التكتيكية لكنها لا تُعاقِب النظام جذريًا أو تُزيل خطره عن المنطقة.
السياسة لا تعترف بالانتصارات المطلقة في ميدان الحرب، خاصة عندما تتعامل مع أنظمة لها تاريخ عميق من الصراع والمرونة السياسية. ما نراه اليوم هو استمرار لمنهجية كلاسيكية: “إن أردت السلام فاستعد للحرب.” ترامب لا يبحث عن سلام هادئ، بل عن سلام مفروض بالقوة، يتخلله تهديد دائم بالتصعيد والضربات التي تبقى محدودة، للحفاظ على هامش المناورة السياسي.
في خضم هذا الصراع، لا يمكن إغفال حقيقة أن الضربات ليست سوى بداية في سلسلة معقدة من المواجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية. القصة الحقيقية تكمن في ما وراء القنابل، في كيف ستُدار التفاعلات الإقليمية والدولية، وكيف سيعيد النظام الإيراني وحلفاءه رسم موازين القوى في الشرق الأوسط.
ختامًا، يجب أن نفهم أن هذه الضربات لا تمثل نهاية أو بداية نهاية إيران، بل هي استعراض للقوة داخل لعبة سياسية تدار على أكثر من مستوى. الأهم من المواقع التي أُصيبت هو المفاعل الذي ما زال صامتًا تحت السطح، مفاعل تخصيب التحولات السياسية والاجتماعية التي ستحدد فعليًا مصير إيران والمنطقة بأكملها.