وجّهت الولايات المتحدة "ضربات جراحية" ضدّ المنشآت النووية الأساسية في إيران، وهي فوردو ونطنز وأصفهان، بعدما استنفد الرئيس دونالد ترامب كلّ الوسائل الدبلوماسية لمعالجة قضية طهران النووية. سبق لترامب أن وضع شروطه على طاولة المفاوضات وخيّر نظام الملالي بين أمرَين: القبول بصفقة على المقاييس الأميركية أو تلقي ضربة عسكرية قاصمة. لم يتردّد الرئيس الجمهوري بتنفيذ تهديده وكان وعده صادقًا، رغم اتباعه "الغموض الاستراتيجي" الذي تفوّق به على "دبلوماسية الخداع" الإيرانية. اليوم، يُحدّد ترامب لطهران مسارين لا ثالث لهما: إمّا التسليم بالواقع والذهاب نحو تسوية، وإمّا مواجهة العواقب الوخيمة إذا اختارت الردّ. يعيش قادة طهران أسوأ أيّامهم في الحكم منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، فكلّ يوم يمرّ تزداد تحدّياتهم الوجودية صعوبة وتتعمّق "الحفرة" التي ما زالوا ينزلقون فيها منذ فجر 7 أكتوبر 2023. "الحفرة" سحيقة للغاية ويبدو أنها ستبتلع "محور الممانعة" برمّته.
ألحقت الضربات الأميركية أضرارًا جسيمة بالمنشآت النووية، وفق تقييمات أولية، في عملية دقيقة وخادعة بطريقة تنفيذها أُطلق عليها اسم "مطرقة منتصف الليل"، شاركت فيها قاذفات ومقاتلات وغواصات، ما هشّم عمليًّا "النووي الإيراني". حرصت واشنطن على التأكيد أنها ليست في حال حرب مع الجمهورية الإسلامية، وأن العملية انتهت بالنسبة إليها، إذ لا يُريد ترامب توسّع رقعة الحرب في المنطقة وإقحام الجيش الأميركي في صراع استنزافي، إلّا أن قائد "العالم الحرّ" لن يتهاون في توجيه ضربات أشدّ قسوة ضدّ إيران، إن اختارت نهج الثأر، وهو أمر تُدركه طهران جيّدًا، خصوصًا بعدما لمست مدى جدّية ترامب في تنفيذ وعيده وفداحة عدم أخذه على محمل الجدّ، علمًا أن اغتيال سليماني بداية عام 2020 كان درسًا كافيًا لم تستخلص العِبر منه.
وضعت "أكبر ضربة عملياتية" لقاذفات "بي 2" في تاريخ أميركا، المنطقة والعالم، في حال من الترقب الحذِر بانتظار الردّ الإيراني وحدوده وحجمه. تأهّبت دول الخليج العربية، التي تستضيف عشرات آلاف الجنود الأميركيين، للاستعداد لأي طارئ وسط حركة اتصالات دبلوماسية مكثفة يقودها قادتها لتهدئة الوضع، طبعًا إلى جانب مبادرات أخرى، فيما تتخذ القيادة المركزية الأميركية وضعية دفاعية. صحيح أن لدى إيران مروحة خيارات واسعة للردّ، بيد أن الملالي يحسبون ألف حساب لكلّ خطوة يرغبون القيام بها، لكي لا يتطوّر هدف أميركا من القضاء على البرنامج النووي، الذي تعرّض لنكسة هائلة، إلى الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي قد يغدو أصلًا نتيجة طبيعية لمرحلة ما بعد الحرب.
ربّما تحاول طهران استهداف مواطنين أميركيين وإسرائيليين أو مصالح البلدين أو مقرّاتهما الدبلوماسية حول العالم. وتداعيات مثل هكذا هجمات إرهابية تبقى مرتبطة بأهوالها. كما لوّحت إيران باحتمال إغلاق مضيق هرمز، وإن نجحت في تحقيق ذلك بزرع ألغام بحرية أو استهداف ناقلات نفط وسفن، فإن أوّل وأكبر المتضرّرين ستكون حليفتها الصين. وقد تستهدف الجمهورية الإسلامية، بشكل مباشر أو عبر أذرعها، قواعد أو سفنًا بحرية أو سفارات أميركية في المنطقة. يُراهن خبراء على أن الملالي لن ينزلقوا إلى "خيارات انتحارية" ستهدّد وجود نظامهم، بل سيكتفون بـ "ردّ مدروس" يحفظ ماء الوجه، بينما يستبعد خبراء آخرون أن يتمكّن قادة طهران من "دوزنة" ردّهم إلى هذا الحدّ، إن أرادوا ذلك أصلًا، معتبرين أن "سوء التقدير" في الحسابات وارد بقوّة في مثل هذه الظروف المعقدة والاستثنائية، ما يُبقي الباب مفتوحًا أمام أسوأ السيناريوات.
كذلك، يتحدّث الخبراء عن احتمال انسحاب إيران من معاهدة عدم الانتشار النووي لإبعاد أعين الرقابة الدولية عن أي برنامج نووي سرّي مستقبلًا، في وقت تُطرح فيه أكثر من علامة استفهام حول تقارير يُسرّبها مسؤولون إيرانيون تشير إلى نقل طهران كميات من اليورانيوم عالي التخصيب خارج منشأة فوردو قبل تعرّضها للقصف. لكن الخبراء يجزمون بولادة مرحلة جديدة دشّنها ترامب بعد ضربه المنشآت الثلاث، بغضّ النظر عمّا سيحصل في الأيام والأسابيع المقبلة. لم تعد طهران تستطيع دفن رأسها في الرمال أو فرض شروطها على طاولة المفاوضات، إذ سيتضمّن أي وقف للنار شروطًا غربية حازمة سيتحتم على الجمهورية الإسلامية قبولها والالتزام بها بإشراف دولي صارم، وإلّا ستواجه "مضاعفات" تنسف وقف النار.
يبتهج الإسرائيليون بـ "لحظات تاريخية" بعد ضرب ترامب "النووي الإيراني"، حتى أن نتنياهو سارع للصلاة أمام "حائط المبكى". رغم أن تل أبيب استكملت ضرب إيران بعد "مطرقة منتصف الليل" وتلقت ردًّا صاروخيًّا منها، إلّا أن إسرائيل قد تصبح أكثر استعدادًا مع الوقت للموافقة على وقف للنار، عندما ترى أنها حققت غاياتها من "الأسد الصاعد" بتدمير البرنامج النووي الإيراني، ولو أن القضاء عليه كليًّا يبقى مستحيلًا بالسبل العسكرية فقط، وبإضعاف القدرات الصاروخية الباليستية لطهران. أثبت ترامب لإيران والدول المنافسة لأميركا على المسرح العالمي بأنه "رجل القول والفعل"، خصوصًا أن أميركا تواجه تحدّيات جيوسياسية أكثر تعقيدًا من إيران، مثل الصين وروسيا وحتى كوريا الشمالية. وبالحديث عن بيونغ يانغ، نجح ترامب بتعطيل البرنامج النووي الإيراني ومنع طهران من تصنيع قنبلة ذرية كما فعل نظام سلالة كيم، وتالياً قطع الطريق أمام طهران لانتهاج "النموذج الكوري الشمالي".
من المبكر الحسم بمدى تضرّر "النووي الإيراني"، وكم من "السنوات النووية" أُعيدت طهران إلى الوراء والكلفة المادية والبشرية الباهظة التي تكبّدتها. لكن ما لا شك فيه أن الشرق الأوسط يخطو نحو حقبة جديدة لا مكان فيها لـ "إيران نووية"، ولو سعت إلى تسريع ذلك بعد تعرّضها لـ "نكبة استراتيجية"، فضلًا عن أن زمن الأذرع وتصدير الثورة الإسلامية ولّى إلى غير رجعة. أمّا في الوقت الحالي، فما زالت المنطقة تقف فوق فوهة بركان بانتظار قرار الملالي بالردّ وما إذا كانت هذه الحرب ستتوسّع أو تطول، وانعكاس ذلك على العالم والبيئة الإقليمية ونظام الجمهورية الإسلامية ووكلائه المذهولين بما حلّ بهم بعد "طوفان الأقصى".