منذ عقود، تتكرر في الشرق الأوسط مشاهد لصراعٍ لا ينتهي، تدور رحاه بين قوى إقليمية ودولية، ويتصدّره التوتر المستمر بين إيران وإسرائيل. هذا الصراع ليس جديدًا، لكنه في كل محطة زمنية يُعاد إنتاجه بلغة جديدة، وتُعاد صياغته في إطار سردية ثابتة تقريبًا، ترى في بعض القوى "أعداءً بالضرورة"، وفي البعض الآخر "حلفاء بالصورة". وفي قلب هذه السردية، تبقى الولايات المتحدة الطرف المهيمن الذي يعيد تشكيل ملامح اللعبة بما يتناسب مع دوره ومصالحه.
خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي كانت قائمة على مبدأ المواجهة المباشرة دون الدخول في حروب طويلة، اختارت واشنطن التصعيد مع طهران بشكل محسوب: انسحاب من الاتفاق النووي، عقوبات اقتصادية شديدة، وضربات نوعية طالت بعض المنشآت الإيرانية. ورغم ذلك، فإن هذه الضربات وُصفت في أوساط كثيرة بأنها محدودة التأثير، وأقرب إلى رسائل سياسية منها إلى خطوات عسكرية حاسمة.
لكن اللافت في هذا النهج ليس التناقض بين التصعيد والخطاب، بل الفكرة الأعمق التي تكشفها هذه السياسة: أن الصراع بحد ذاته بات مطلوبًا، وليس الحسم. فوجود "العدو" يبرر الوجود الأمريكي المستمر في المنطقة، ويعزز الحاجة إلى تحالفات أمنية، وصفقات تسليح، وتموقعات استراتيجية. ويبدو أن ما تريده واشنطن ليس القضاء على "الخصم"، بل بقاؤه في الصورة، فقط بالحد الذي يُبقي الحاجة إلى الولايات المتحدة قائمة.
هنا تتضح واحدة من أبرز آليات التفكير السياسي الأمريكي في المنطقة: أن يبقى هناك دائمًا شرير. هذا "الشرير" يتغير اسمه وشكله، لكنه لا يختفي من السردية. في حقبة ما كان الاتحاد السوفيتي، ثم عبد الناصر، فصدام حسين، منظمة التحرير، حزب الله، وأخيرًا إيران. وفي المقابل، تلعب واشنطن دور "الصالح"، الحامي للنظام الدولي، والمدافع عن القيم، حتى عندما تتعارض سياساتها الميدانية مع هذه القيم.
في هذا السياق، بدأت بعض دول المنطقة تعيد النظر في أدوارها داخل هذه المعادلة. المملكة العربية السعودية، على وجه التحديد، قرأت اللعبة بعمق مختلف. ويُقال إن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عبّر في حديث خاص عن رغبته أن تكون السعودية "دولة طبيعية"، مثل باقي الدول، لا أن تُزج باستمرار في سرديات صراعية تُفرض من الخارج. فالمملكة، تاريخيًا، دفعت ثمناً باهظًا لانخراطها في معادلات أكبر منها، سواء عبر تحالفات مكلفة أو من خلال استهدافها كقوة نفطية ودينية مؤثرة.
رؤية السعودية الجديدة تقوم على محاولة الخروج من هذه الثنائية الخانقة: أن لا تكون في محور ضد آخر، ولا أن تُفرض عليها أدوار الوكالة عن مصالح لا تخصّها مباشرة. بل أن تُعيد رسم صورتها كدولة فاعلة تنطلق من مصالحها، وتسعى إلى استقرارها الداخلي ونموها الاقتصادي والتنموي، بعيدًا عن منطق الاستقطاب الإقليمي والدولي.
أما لبنان، فيبقى حتى اللحظة طرفًا غير فاعل في هذه المعادلة، بل ساحة تُستخدم لاختبار التوازنات. لم يكن لبنان يومًا مصدرًا لصراع إقليمي مباشر، لكنه تحوّل إلى واجهة لصراعات الآخرين، سواء عبر الحروب بالوكالة، أو عبر العقوبات، أو عبر تحميله مسؤولية أدوار لم يكن صاحب قرار فيها. المطلوب اليوم من لبنان ليس فقط أن يحمي نفسه من الانهيار، بل أن يدرك موقعه الحقيقي: أنه ليس شريرًا في سردية أحد، لكنه أيضًا ليس محايدًا إلى درجة الانسحاب من الفعل. بإمكانه – لو امتلك القرار والإرادة – أن يكون طرفًا منتجًا في صياغة معادلة جديدة، تقوم على السيادة، والتحييد الذكي، واستعادة قراره الوطني.
هكذا يُعاد ترتيب الشرق الأوسط اليوم: ليس وفق نتائج المعارك فقط، بل وفق من يفهم كيف تُبنى السرديات، ومن يعرف متى ينخرط، ومتى ينسحب، ومتى يغيّر موقعه من حليف إلى شريك، ومن تابع إلى فاعل.