منذ السابع من أكتوبر 2023، يخوض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حروبًا مفتوحة على أكثر من جبهة، جميعها تحمل طابعًا استراتيجيًا لإسرائيل، وأسهمت في إعادة رسم ملامح المنطقة.
ففي قطاع غزة، وجّهت إسرائيل بقيادة نتنياهو ضربة قاسية إلى حركة حماس، انتهت إلى تصفية معظم قادتها، بمن فيهم قائدها يحيى السنوار.
أما على الجبهة الشمالية، فقد نجح نتنياهو بضرب الهيكلية العسكرية لـ "حزب الله"، الأمر الذي أفقد "الحزب" الكثير من فعاليته العسكرية، بعدما تم اغتيال معظم قادته، وصولاً إلى تصفية أمينه العام حسن نصرالله.
كما شكلت الحرب الإسرائيلية على إيران تصعيدًا غير مسبوق تجاه طهران. إذ نجحت اسرائيل، بقيادة نتنياهو، في اغتيال قادة كبار في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وعلماء في البرنامج النووي الإيراني. وتمكنت أيضاً، بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، من توجيه ضربة قاضية للمشروع النووي الإيراني.
رغم كل هذه "الإنجازات" التي تُوصف بالاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل، ما زال نتنياهو يُلاحق من قبل القضاء، ويُحاكم بتهم فساد.
هذا المشهد ليس تفصيلاً عابرًا، بل لعله المدخل الحقيقي لفهم طبيعة الانتصارات الإسرائيلية. فأن يحاكم رئيس حكومة حقق كل هذه الإنجازات الاستراتيجية، وأثناء قيادته لحرب كبرى، وأن تبقى المؤسسة القضائية تعمل دون تعطيل أو إخضاع، فذلك يشير إلى جوهر النظام السياسي الإسرائيلي: القانون فوق الجميع، مهما بلغت سلطاتهم أو إنجازاتهم.
إذاً، ليست القوة العسكرية وحدها ما يصنع الانتصارات. أبرز مثال هو الاتحاد السوفياتي، الذي امتلك سلاحًا نوويًا، لكنه انهار بسبب غياب مفاهيم المحاسبة والديمقراطية وسيادة القانون.
من هنا، علينا أن نفهم الانتصار الإسرائيلي على أنه نتيجة طبيعية لمسار يقوم على مفاهيم دولتية ومؤسساتية، ويتقدم فيه مفهوم المحاسبة والقانون على مصلحة الحاكم، ويُخضع الجميع ـ دون استثناء ـ لسلطة القضاء، ويخلق بيئة من الحرية تُشجّع على المبادرة والإبداع والتطور في مختلف المجالات ومنها الأبحاث العلمية والتكنولوجية.
حسب أبسط قواعد المنطق، يمكن تشبيه اسرائيل بالتلميذ الذي اجتهد فاستحق النجاح. الدول التي تعمل وفق آليات سليمة، غالبًا ما تنتصر.
في المقابل، هل يستحق محور الممانعة الهزيمة؟ نعم يستحقها، لأنه هو من أسّس لها من خلال دول فاشلة، وتبعية عمياء، وشعارات جوفاء تُغلّف التخلف والقمع والذل والانهيار والهزيمة بأغلفة دينية وانتصارات وهمية. لقد أنتج هذا المحور قادة تُحاط بهالة من القداسة، لا تُساءل ولا تُحاسب، مهما بلغت الكوارث والهزائم التي يتسببون بها.
إن محور يُحوّل القائد إلى رمز لا يُمس، لن يحصد سوى الهزيمة والخراب. قد يربح جولة، لكنه لن ينتصر في المعركة. هو حتماً ساقطٌ ومهزومٌ ولو بعد حين.
من المهم التوضيح أنني تعمّدت عدم التطرق إلى المجازر الإسرائيلية في هذا المقال، لأن رموز هذا المحور لا يفعلون سوى إحصاء هذه المجازر، لكنهم لم يحصوا أسباب هزائمهم وفشلهم في بناء دول حديثة، لا بل يتخذون من تسليط الضوء على هذه المجازر وسيلة لتغليف فشلهم واستبدادهم ونشر التخلّف والموت.
لقد آن الأوان للتركيز على ما هو الأفضل في إسرائيل، أي مفاهيم المحاسبة، واستقلال القضاء، وإخضاع السلطة للمساءلة. نحتاج أن نرى قادة ورؤساء ومسؤولين خلف القضبان ـ كما يحدث في إسرائيل ـ وأن نكف عن صناعة أصنام سياسية مُقدّسة.
وأخيرًا، تذكّروا أن نتنياهو الذي بُتّم تخشونه، هو ذاته يخشى من القضاء في إسرائيل. تلك هي المفارقة التي يجب التوقّف عندها طويلاً.