جوزيف بوهيا

لا وطن بلا جناحه الآخر: صوت المغترب حق لا منّة

أن يُطلب من اللبناني المغترب أن يكون خزّان دعم مالي واقتصادي للوطن، ثم يُقصى عن القرار السياسي، فذلك ليس فقط إجحافًا، بل استهداف مباشر لفكرة الوطن الشامل، العابر للمناطق والحدود.


نحن لسنا ضيوفًا على هذا الوطن. نحن أبناؤه… في الداخل كما في الخارج. نحمل هويته في جيوبنا، وأحلامه في قلوبنا، وجرحه في وجداننا. لا يمرّ يوم علينا في بلاد الاغتراب إلا وننظر خلفنا، إلى لبنان، بلهفة المحبّ، وبقلق الشريك، وبشغف الحالم بالتغيير.


فأي منطق يُجيز أن يُختزل حضور الاغتراب اللبناني، الممتد في قارات العالم، بستة مقاعد فقط؟! هل يُعقل أن تُضغط طاقاتنا، آمالنا، تعدديتنا الفكرية والسياسية، في صندوق ضيق، وكأننا خارج المعادلة الوطنية؟


إنّ هذا التوجّه هو عمليًا فصل ناعم للاغتراب عن لبنان، ومقدمة لعزلنا عن القرار الوطني، وكأننا "مصدر تمويل" لا "شركاء مصير". وكأن المغترب لا يُطلب منه إلا أن يُرسل المال، دون أن يكون له رأي، أو تمثيل فعلي، أو دور في رسم مستقبل الدولة التي يحلم بها ويستثمر بها روحه وماله وأمله.


إنّ الإبقاء على هذا النظام الانتخابي المجحف لا يعبّر عن تطوّر ديمقراطي، بل يُكرّس التمييز والتهميش، ويضرب بمبدأ المساواة عرض الحائط. بل يُعدّ انتقاصًا من السيادة الوطنية حين يُجتزأ جزء كبير من شعبها من معادلة القرار.


والأسوأ من ذلك، أن هذا الفصل المقنّع بين الاغتراب والوطن لن يؤدي فقط إلى إضعاف التمثيل السياسي، بل يهدّد بشكل مباشر المناعة الاقتصادية الأخيرة التي لا تزال تُبقي لبنان على قيد الحياة. فبينما تغيب أي رؤية اقتصادية جدية من الدولة، يشكّل تحويل الأموال من المغتربين شريان الاقتصاد الأساسي. وبالتالي، فإن تهميشهم اليوم سياسيًا، سيدفعهم غدًا إلى الانكفاء وجدانيًا وعمليًا، ما يُنذر بكارثة اقتصادية واجتماعية حتمية، لا تقلّ خطرًا عن الأزمات السياسية القائمة.


المشكلة لا تكمن فقط في حصر تمثيل المغتربين بستة مقاعد رمزية، بل في طريقة فصلهم عن الخارطة الانتخابية الطبيعية للبنان.


فبدل أن يُشاركوا في صنع القرار ضمن دوائرهم الأصلية التي ينتمون إليها وجدانيًا واجتماعيًا وعائليًا، يُحاصرون ضمن دوائر اغترابية معزولة تُفرغ مشاركتهم من معناها السياسي. إنّ هذا النموذج لا يُجسّد عدالة التمثيل، بل يُعيد إنتاج التهميش بطريقة مقنّعة. وحده التصويت في الدائرة اللبنانية الأم، هو الذي يُعيد دمج المغترب في نسيج الوطن، ويدعم التوازن الديمقراطي الذي يحتاجه لبنان اليوم قبل الغد.


إنّ هذا التوجّه لا يتناقض فقط مع مبدأ المساواة، بل يُخالف جوهر الدستور اللبناني الذي لا يميّز بين المواطنين على أساس مكان الإقامة، كما ينتهك مضمون الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي تضمن المشاركة السياسية العادلة والمتساوية لكل مواطن.


وإذا كان البعض لا يدرك حجم مساهمة الاغتراب، فليتذكّر:

في كل أزمة مالية، كان الاغتراب هو الحبل الأخير.

في كل كارثة إنسانية، كان المغتربون في الطليعة.

في كل نداء استغاثة، كنا نحن أول المستجيبين.


لقد دفعت الجاليات اللبنانية، من تعبها واغترابها، فواتير أزمات الداخل. فهل يكون جزاء الوفاء هو الإقصاء؟! نحن لا نطلب امتيازًا. نحن نطالب بحقّ. حقّ كل مغترب لبناني أن يقترع كما أي مواطن مقيم، دون تمييز، دون تسييس، دون هندسة تُقصيه عن دوره الوطني.


إنّنا، باسم اللبنانيين المنتشرين في أصقاع الأرض، نطالب بإدراج اقتراح تعديل قانون الانتخاب على جدول أعمال أول جلسة نيابية، بما يضمن أولاً حق المغتربين في الاقتراع في دوائرهم اللبنانية الأصلية، لا في دائرة اغترابية منفصلة، وأن يتم التصويت عليه علنًا أمام الشعب اللبناني، التزامًا بمبدأ الشفافية والمساواة الكاملة بين المواطنين، أينما وجدوا.


ونتوجّه اليوم بنداء إلى كل نائب حرّ، وإلى كل حزب يدّعي تمثيل الأمة: أين موقفكم؟ هل أنتم مع تهميش المغترب اللبناني؟ هل أنتم مع لبنان الواحد، أو مع فصله عن قلبه النابض في الاغتراب؟


إنّ الخشية من صوت الاغتراب ليست نابعة من حسابات وطنية، بل من خوف سياسي لدى أطراف باتت تعتبر أي تغيير تهديدًا لمكاسبها. فهناك من يفضّل بقاء قواعد اللعبة محصورة، مضمونة، محمية... لأنه يدرك أن فتح الباب أمام مشاركة المغترب في العملية السياسية سيُعيد التوازن المفقود، ويكشف عمق التفاوت بين من يريد دولة، ومن يريد السيطرة عليها. وعلى رأس هؤلاء، قوى باتت ترتعد من نبض الاغتراب الحر، لأنه ببساطة... لا يُشترى، ولا يُطوّع، ولا يخضع لسلاح أو لمنظومة فساد.


فإمّا أن نكون شعبًا واحدًا في كل العالم، وإمّا أن نُجزّأ ونُقصى… فنخسر لبنان الذي نعرفه، ونخسر آخر ما تبقّى من الرابط الوطني الجامع. الوطن لنا جميعًا. الإغتراب لا يُختصر بدائرة، ولا يُختزل بستة مقاعد. ونرفض أن يكون صوتنا على هامش الوطن.


هذه صرخة من قلب الاغتراب... ولن تكون الأخيرة. ولن نقبل أن يُخنق لبنان بفقدان جناحه الآخر.


جوزيف بوهيا - مغترب لبناني في بوسطن، ماساشوستس