في زمن يسود الساحة الفنية كلّ سطحيّ وسريع، يظلّ اسم جاهدة وهبه علامة فارقة في عالم يتوق إلى العمق والصدق في الفكر والفنّ. المطربة التي عبَرت من المسرح إلى الغناء فالقصيدة، لا تحمل صوتًا فحسب، بل رؤية ورسالة. تؤمن بأنّ الفنّ لا يُقدَّم للترفيه وحده، بل ليكون فعل مقاومة ومصدر خلاص.
صيف 2025، تعود جاهدة وهبه لتقف على أحد أعرق المنابر الثقافية في لبنان والعالم العربي: "مهرجانات بيت الدين الدوليّة". حضورها في هذا الحدث، وسط ما يعيشه الوطن من تحدّيات، هو تأكيد جديد أنّ الكلمة الجميلة، اللحن الصادق، والالتزام بالفن كقيمة، هي قيم لا تموت.
تقول وهبه لـ "نداء الوطن" إن مشاركتها في "مهرجانات بيت الدين" هذا العام تأخذ طابعًا وجدانيًا وروحيًا عميقًا، وتشعر بأنّ المسؤولية مضاعفة، خصوصًا أنها تحمل إلى الجمهور جرعة من الجمال والأمل والموسيقى الراقية التي تليق بوجعه وصموده.
صوت لا ينكسر
"أنا ابنة الكلمة منذ البدء"، تقول وهبه، لتلخّص ببساطة عمق مسيرتها المتعددة. بدأ عشقها للمسرح الذي علّمها الإصغاء إلى نبض الجسد والروح، قبل أن تأسرها الموسيقى كأفق مفتوح لا تحدّه الجدران. أما الشعر، فكان الملاذ والنبع، الوحي الذي لا يُرى ولا يُفسَّر.
لا تُحب وهبه تصنيف نفسها ضمن خانة "الغناء الملتزم"، إذ تعتبر أنّ الفن الصادق هو التزام بالصدق والتميّز. ما تقدّمه ليس خيارًا سهلًا، بل نداء داخليًا ومسؤولية تجاه المعنى والجمال. ورغم أنّ السوق يُغري بالسهولة، اختارت أن تكون "شاهدة على زمن لا ينسى عمقه".
الشعر وطنٌ آخر
تُغنّي جاهدة وهبه لكبار الشعراء، من نزار قبّاني إلى محمود درويش وأدونيس، وتختار القصائد التي تناسبها، حسب تعبيرها. فالقصيدة لا تأتيها عبثًا، بل تهزّ شيئًا في أعماقها، وتُولد منها موسيقى أو تحيا على لحن يسكنها.
عن الشعر تقول: "الشعر هو ماء الروح، هو وطنٌ حين تغترب الأرض، وهو سفرٌ حين يضيق الواقع". وترى أنّ "شعراء مثل نزار ودرويش لا يمرّون بل يعبرون، وما زالوا قادرين على إيقاظ شيء قديم في الناس بمجرد أن تُنفخ في قصائدهم حياة جديدة".
المسرح صوتها الآخر
المسرح ليس مجرّد بداياتها الفنية، بل أساس أدواتها، و "صوتها الثاني"، كما تقول. وهو ما جعل من أدائها الغنائي تجربة تتجاوز الغناء، إلى التمثيل الصامت لكل كلمة تُقال. "حين أغنّي لا أكتفي بالنغمة، بل أعيشها، أراها، أوجّهها كما لو أنني أؤدي دورًا صامتًا داخل الأغنية".
وعند سؤالنا لها عن الفرق بين الغناء والتمثيل، تردّ وهبه: "كممثلة، أذوب في شخصية كتبها غيري. أما حين أغنّي، فأنا أنا، جسدي وصوتي وتاريخي دفعة واحدة".
وفي زمن تهيمن فيه الموسيقى التجارية، تبقى جاهدة وفيّة لخطها الخاص. تقول بوضوح: "أعرف أنّ الفنّ السهل يملأ الساحات، لكن ما يلمس الأعماق يبقى، ولو بصوتٍ خافت". وتضيف أنّ وفاءها لهذا الخط ليس ترفًا بل مسؤولية داخلية، وهو ما يجعلها مختلفة ومستمرة في آن. وعن موجة إعادة تأدية الأغنيات القديمة، تقول: "أنا لا أؤمن بإعادة الأغنية، بل بإيقاظها. ما يُقدَّم بحبّ ووعي يولد من جديد".
لا تخفي جاهدة وهبه أنّ الحلم لا يزال رفيق دربها، فهو ما يُبقي الطريق حيًّا. تحلم بمسرح غنائي كبير يجمع الكلمة واللحن والصورة، وتعاونات تتجاوز الجغرافيا والأسلوب لصناعة "صوت عربي جديد، وعميق، وحرّ، وحيّ".
في بيت الدين
في قصر بيت الدين، حيث تتعانق الأرزة مع الحجر العتيق، وحيث يعلو صدى الفنون فوق كل صخب، تعود الفنانة اللبنانية إلى جمهورها في ليلة استثنائية، ضمن فعاليات المهرجان العريق. في لقائنا معها، فتحت لنا أبواب عالمها الفني وتحدثت عن هذا الحدث المنتظر بشغف، عن التحضيرات، وعن سحر المسرح الحي.
تقول: "كلّ فنان يحلم بالوقوف على مسرحه، حيث يتعانق السحر مع المجد والتاريخ. هذا المسرح ليس فقط منصّة، بل ذاكرة شاهقة، ووقفة على تخوم المعنى. إنّه لقاء مع الجمال عندما يصرّ على البقاء رغم كل الصعوبات".
وعن تعاملها مع رهبة المسرح، تصف وقوفها عليه وكأنها في "معبد"، فمسرح بيت الدين "لا يحتمل المجاملة، بل يطلب منك أن تكون صادقًا، وحاضرًا، ومبدعًا، وأن تترك بصمتك في ذاكرته".
"ديوانية حب" فريدة
السهرة، كما تصفها وهبي، تحمل عنوان "ديوانية حب". هي ثلاثية فنّية تجمعها مع المطربتَين المصريّة ريهام عبد الحكيم والسوريّة لبانة القنطار. هو مجلس طربي، على حدّ وصفها، فيه من الأنس والألفة الكثير. صُمِّم مع كريم مسعود، وفيه مزيج بين الغناء الأصيل، والشعر الحي، والحكاية المسرحية. الجمهور على موعد مع هذه الليلة المميّزة في 10 تموز الجاري. في البرنامج مفاجآت، تؤكّد وهبه أنّ الجمهور سيكتشفها بقلبه. وتضيف أنّ هناك لحظات ارتجال حيّ مع الفرقة بقيادة المايسترو أحمد طه، حيث يتنفّس اللحن بعفوية وتولد اللحظة من تواطؤ القلب مع الآلة.
الجمهور الذوّاق دافع للإبداع
أما عن جمهور بيت الدين، فتقول المطربة العريقة: "هو جمهور دقيق، ينتظر ما يُدهشه ويشبهه. ولهذا فإنّ كل ما أقدّمه يكون دائمًا على قدر عالٍ من الدقة والجمال، احترامًا لذائقته وحرصًا على تقديم عرض يليق به. "تصف الأمسية بأنها تجربة فنية غير تقليدية: "كأننا نُلغي المنصّة بيننا وبين الجمهور. القصيدة تتعانق مع اللحن، والصوت يتحاور مع الحكاية، والمسرح يتحوّل إلى فضاء حيّ للفن والحميمية". ترى وهبه أنّ أهمية "مهرجان بيت الدين"، والمهرجانات اللبنانية عمومًا، تكمن في كونها ذاكرة حيّة في وجه العتمة، ومقاومة راقية للجهل والانقسام. هي فعل إرادة وحياة في زمن الانهيار.
وتختم جاهدة وهبه حديثها برسالة محبّة لجمهور المهرجان: "نلتقي لنحتفل معًا بالحب، بالموسيقى، وبالحياة التي لا نكفّ عن الدفاع عنها، بالفن والأمل والعزيمة التي لا تُهزم".
خارج الفن من هي؟ وراء الفنانة، جاهدة وهبه امرأة تحبّ الدهشة والعزلة. تطبخ، تقرأ، تمشي، تتأمل، وتكتب. تؤمن أنّ الطفولة ليست ماضيًا منسيًا، بل "الجذر الذي ما زال يُغني فيها"، حيث تشكّلت ذائقتها من صوت أمّها وكُتُب أبيها، ومن بهاء صوت فيروز عند الفجر. عن الأغنية الأقرب إلى قلبها، تجيب: "الأقرب هي التي لم تُغنَّ بعد، لأنها تسكنني كهَمسة مؤجّلة، كصلاة تبحث عن صوت". |