مريم سيف الدين

قرار إلغاء الألقاب سارٍ من دون تطبيق

"فخامته" و "سعادته" و"معاليه" لن يتخلّوا عن ألقابهم

23 آب 2019

02 : 03

يروي أحدهم أن القاضي الراحل نصري لحود، شقيق الرئيس السابق إميل لحود رغِب في منح ابنه لقب "البكوية". ولأن لحود لم يكن بَكاً "ولا بيو كان بيك"، طلب من المختار تسجيل ابنه باسم "نصري بك" لحود، ليصبح نجله "بَكاً" وإن لم يكن كذلك أباً عن جد. ليست القصة مستغربة في مجتمع مهووس بالألقاب التفخيمية. ويكفي أن تخاطب أحدهم من دون ذكر لقب التفخيم الذي ناله ليقابلك بوجوم. وسعياً للألقاب صرف الكثير من الأثرياء ورجال الأعمال ملايين الدولارات لسياسيّ من هنا ومسؤول من هناك، وليست الانتخابات النيابية الأخيرة سوى مثال يؤكِّد ذلك، حيث عمل العديد من الأحزاب على استغلال سعي الأغنياء لكسب الألقاب وترشيحهم لتمويلها، علّهم يشعرون بالسعادة التي كان يشعر بها أحد الوزراء كلّما ناداه أحدهم بـ"معالي الوزير".



بالأمس وضع مجدداً بند إلغاء الألقاب على جدول أعمال مجلس الوزراء، لكن وزراءً اعتبروه لزوم ما لا يلزم، بحجة أنه صدر سابقاً عن الحكومة اللبنانية في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي قرار بإلغاء الألقاب، وبالتالي لا حاجة لقرار جديد. في هذا الإطار علمت "نداء الوطن" أن وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، سليم جريصاتي، يعد مشروع قانون لإلغاء الألقاب، سيتقدم به إلى مجلس النواب.

أصاب إذاً النائب السابق محمد قباني عندما توقع في اتصال مع "نداء الوطن" بألا يقرّ مجلس الوزراء اقتراح إلغاء الألقاب. ويقول قباني إنه تقدم بهذا الاقتراح سابقاً عبر مشروع قانون لأنه مسيء للناس، ولأن هذه الألقاب لا تستخدم إلا في الدول المتخلفة، ويرى أن سبب رفض الاقتراح هو اهتمام المعنيين باستمرار الألقاب التفخيمية. يدرك قباني أن الاقتراح لن يلغى فوراً، الألقاب التفخيمية، "ستبقى تستخدم لفترة، لكنها ستتراجع حتى تلغى بالكامل بعد 30 أو 40 سنة". ويروي قباني أنه في اتفاق الطائف تقرر إلغاء الألقاب، "وهو ما التزم به باسم السبع عندما عين وزيراً للإعلام في العام 1996، فاعتمد عبارة "السيد الرئيس" أثناء تلاوة مقررات مجلس الوزراء، فقامت القيامة ضده وأرسل له الرئيس السابق إميل لحود رسالة بوجوب ذكر الألقاب".

اقتراحات عدة للتخلّي عن الألقاب

وبالعودة إلى عهد الهراوي، فبتاريخ 16 تشرين الأوّل 1997 اتخذت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري قراراً حمل الرقم 36 ألغيت بموجبه الألقاب من "فخامة" إلى "دولة"، "معالي" و"سعادة"، واستمر تطبيق القرار حتى نهاية عهد الهراوي في تشرين الثاني 1998. وبرّر الهراوي قرار إلغاء الألقاب بأنها ألقاب موروثة منذ أيام الحكم العثماني، وعندما سأله الزميل سامي كليب في مقابلة: اليوم بمَ تحب أن أتوجه إليك ؟ أجابه الهراوي: السيّد الرئيس. لكن يبدو أن الرئيس السابق إميل لحود لم تستهوه فكرة التخلي عن الألقاب، فأعاد استخدامها في عهده بتوجيه شفهي من دون قرار.

وفي 13 شباط 2013 قدّم النائب محمد قباني اقتراح قانون يرمي إلى إلغاء الألقاب لمناسبة ذكرى اغتيال رئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري. وأوضح قباني يومها أن الاقتراح بإلغاء الألقاب يحقق المساواة بين المواطنين. ونصت المادة الأولى من الاقتراح على أن تلغى من الخطابات البروتوكولية الرسمية الشفوية والكتابية والمراسلات والقرارات، كل الألقاب التي تستخدم عند ذكر أو مخاطبة المسؤولين اللبنانيين، من قبيل "فخامة"، "دولة"، "معالي"، "سعادة"، "الشيخ"، "البك" وما شابهها. على أن تجرى مخاطبة جميع المسؤولين، كما جميع المواطنين، من غير تمييز في الموقع الرسمي أو غير الرسمي بخطاب موحد، وهو (السيد) أو (السيدة)، وذلك في الخطابات والمحافل الرسمية. فيستعمل لقب السيد الرئيس أو السيد الوزير أو السيد النائب وحيث يجب. ويشمل خطاب "السيدة" المسؤولة المتزوجة وغير المتزوجة على حد سواء. ونصت المادة الرابعة من الإقتراح على أن تذكر مناصب المسؤولية في الدولة مجردة من إضافة "السيد"، "السيدة"، "السادة"، و"السيدات" في النصوص الدستورية والقانونية.

وفي 25 نيسان 2014، أي في عهد رئيس الحكومة تمام "بك" سلام، وضع الاقتراح على جدول أعمال مجلس الوزراء لكنه لم يقر. فليس من السهولة إقناع من يغلقون الطرقات على المواطنين لتمر مواكبهم ، بالتخلي عن ألقاب ومناصب ورثوها أو بذلوا المال والولاء الأعمى في أغلب الأحيان لاكتسابها.

في تموز 2018 تقدمت النائبة بولا يعقوبيان إلى مجلس النواب باقتراح قانون لإلغاء الألقاب العثمانية والفرنسية، يتضمن ذات البنود الواردة في الاقتراح الذي تقدم به قباني وان قدم المشروع بصياغة مختلفة. وبرّرت يعقوبيان الإقتراح باستفحال الطبقية في مجتمعنا واتساع الهوة في العلاقة بين المواطنين والمسؤولين ما يكرس التمييز والتفريق بين المواطنين. واعتبرت يعقوبيان أنه في المفاهيم الحديثة لا فرق بين المواطنين مهما كانت مسؤولياتهم ومهما علا شأنهم.

لكن مشاريع القوانين التي نصت على إلغاء الألقاب في الخطابات البروتوكولية الرسمية والمراسلات والقرارات، أغفلت الألقاب التي منحت إلى العائلات الإقطاعية في الحقبات الماضية، كلقب "شيخ" و"بك" و"أمير". وهي ألقاب تسجل على الهوية وتستخدم في المعاملات الرسمية جميعها، لا المراسلات البروتوكولية الرسمية فقط. وبذلك تستمر الألقاب المرتبطة بأزمنة الانتداب والاقطاع والتي قسمت المواطنين بين بكوات ومشايخ وأمراء من جهة وعامة الناس والفلاحين من جهة ثانية، وكأن الفئة الأولى أعلى شأناً ومنزلةً، بينما على الفئة الثانية أن تخضع لها وأن تتذكر دوماً هذا التقسيم.

"يا لقب مين يشتريك؟"

ولا يخفى على أحد أن نواباً ووزراء كثراً اشتروا ألقابهم ومناصبهم بالمال. وعادة ما تفضل الأحزاب رجال الأعمال الأثرياء على المناضلين الملتزمين حزبياً من مستوري الحال. والدليل الأبرز ما قام به في السنوات الأخيرة أحد التيارات البارزة، والذي عمد إلى إبعاد من ناضلوا في الشوارع عن المناصب وترشيح أصحاب الأموال الطائلة إلى الانتخابات النيابية حتى وإن لم يكونوا يوماً مقربين منه، وقبلها ترشيح بعضهم في الانتخابات الداخلية بما شكل خرقاً لنظام الحزب الداخلي. وهؤلاء الأثرياء مستعدون لبذل ملايين الدولارات للحصول على لقب "سعادة" أو "معالي" وطمعاً في ما بعد بلقب "فخامة" أو "دولة". وإن كان الأمر مباحاً ومفضوحاً في لبنان، فقد شكل فضيحة في بريطانيا. وأدت مزاعم حزب معارض بأن حزب العمال، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق توني بلير، وأحزاباً سياسية أخرى رشحت أناساً لشغل مقاعد في مجلس اللوردات مقابل تمويل، إلى استدعاء بلير للتحقيق معه واستجوابه، في كانون الأول من العام 2016، كشاهد. وبذلك أصبح بلير أول رئيس وزراء بريطاني يتم استجوابه حول فضيحة بيع ألقاب شرفية منذ استجواب رئيس الوزراء لويد جورج في عشرينات القرن الماضي، والذي أدى إلى صدور قانون في العام 1925 يجرم بيع الألقاب الشرفية التي تمنحها الدولة.

ولم يقتصر بيع الألقاب الفخرية على السياسيين. ففي العام 2018 منحت شركة "هايلاند تايتلز" الاسكتلندية ألقابًا لما لا يقل عن 250 ألف شخص من مواطني دول بعيدة مثل أستراليا وكندا وروسيا. وأعلنت الشركة في حينها أنه يمكن لأي شخص الحصول على شهادة تمنحه لقب "لورد" أو "ليرد" أو "ليدي" وقطعة صغيرة من الأرض مساحتها 0,0932 متر مربع في تلال منطقة هايلاند الاسكتلندية الخلابة، مقابل نحو40 دولاراً فقط، وترتفع الأسعار كلما زادت مساحة الأرض.

وكانت موسوعة غينيس قد صنفت دوقة ألبا الراحلة ماريا ديل روساريو كاييتانا الفونسا فكتوريا ستيوارت إي سيلفا كصاحبة أكبر عدد من الألقاب في العالم. وربما يطمح سياسيونا لمنافستها لذلك يرفضون التخلي عن أيّ من ألقابهم! وقد يكون من الجيد تمسك سياسيينا بألقابهم، فهل يمكن تخيل طلال أرسلان بلا لقب "عطوفة الأمير" مع كل في هذه العبارة من عطف وحنان؟ فالأمير الذي لم يبق من إمارته سوى قصر خلدة بالكاد يحتفظ اليوم بلقب "سعادة" فلمَ الاستعجال في نزعه عنه! وهل يمكن تخيل وليد جنبلاط أو سليمان فرنجية من دون لقب بك؟ هي ألقاب ربما من الضرورة الحفاظ عليها لتذكرنا أننا انتقلنا من كوننا ولاية في سلطنة إلى انتداب فإلى دولة من دون أن نبني دولة وإنما سلطة توارثتها العائلات نفسها. لن يكون تقبل استبدال لقب الفخامة سهلاً، فأن تتوجه إلى الرئيس ميشال عون بـ"السيد الرئيس" قد تتلعثم وترتبك ذلك لأننا لم نعتد على ذلك كما جيراننا السوريون.

وإلى أن يطرح الاقتراح على مجلس النواب، على السياسيين أن يطمئِنّوا. فحتى إن ألغيت الألقاب من النصوص والمراسلات البروتوكولية الرسمية، يبقى الأكيد أنهم سيظلون يسمعونها من الإعلاميين والمواطنين المبجِّلين. أما من يرغب من المواطنين بمنح أولاده ألقاباً أبدية لا تلغيها النصوص، فما عليه سوى أن يتّبع خطى القاضي نصري لحود مانحاً اللقب من دون منّة من أحد.


MISS 3