خاص - نداء الوطن

في محيط رويسات الجديدة وزعيترية الفنار... "بلّش القواص انضبّوا"

مناطق غريبة أو "مغرّبة" عن المحيط؟

24 آب 2019

02 : 31

صيتُها من زمانٍ وزمان: الداخل إليها مفقود والخارج مولود! وأخبارُها تُذيّل حتى اللحظة بعبارة: هي بقعٌ جغرافية، في ساحل المتن الشمالي، مقفلة على مجهول. رويسات الجديدة وزعيترية الفنار منطقتان غريبتان عن محيطهما أم "مغرّبتان" عنه؟ سؤالٌ طرحناه...

"بلّش القواص... فوتوا لجوّا"! "تخانقوا... انتبهوا"! "علقوا الزعيترية...هلق بيبلّش القواص... انضبّوا"!

جملٌ ترد على ألسنة ساكني المناطق المحاذية لكل من زعيترية الفنار ورويسات الجديدة. وعباراتٌ باتت لازمة في كلِ مرّة يرتفع فيها الصراخ من بيوت مبعثرة، شكّلت بقعاً سكانية لا تُشبه أبداً المحيط. فهل هو اختلاف منطقي، طبيعي، يحدث... أو قد يحدث؟ وهل تُسأل الطائفة الشيعية عن ظاهرة "البؤر" التي تُرعب الجوار أم تُسأل الدولة الموجودة "شكلاً" منذ أعوام أربعة عن بقاء هذه الظاهرة؟ وهل يتعمد أهل الحيين الاستقواء على المحيط والخروج عن القانون أم هم أوّل المغلوب على أمرهم في كلّ هذا؟ يستمرُّ "وهج" تاجر المخدرات، إبن بلدة ريحا البعلبكية، أبو سلة (علي منذر زعيتر)، الذي ذاع صيته قبل أعوام في منطقة الزعيترية حاضراً. صبيانُ أبو سلة ما زالوا "ينغلون" في الأرجاء. ودوريات الجيش اللبناني المتواصلة في المناطق المحاذية، بحثاً عن تجار مخدرات، دليل على أن المنطقة ليست، حتى اللحظة، نظيفة. لا يمرّ أسبوع من دون أن يُسمع صدى ملاحقة دورية عسكرية لشبانٍ يتاجرون بالكوكايين والهيرويين ومادة السالفيا المخدرة وما لفّ لفيف كل هذه الأنواع والأسماء المخدرة!

كرم "أبو سلة"

شبابٌ كثيرون أُقحموا في وباء المخدرات، بسعيٍ من صبيان أبو سلة. فتاجرُ المخدرات كثير الذكاء، وعرف كيف يؤسس لمهنتِهِ ويبقيها نشطة حتى عن بُعد. وهو استحصل على ثقة الزعيتريين وغير الزعيتريين "بأعمال خير" كثيرة قدمها الى ناس تينك البقعتين. فمن يحتاج الى دولار ليؤسس عملاً أعطاه أبو سلة ثلاثة. كريمٌ هو هذا الشاب الذي لا يزيد عمره اليوم عن 38 عاماً. و"زلمه" موجودون في زوايا كثيرة. وهو كريمٌ كان (ولا يزال) مع من يُرسل له "ميس كول" منبّهاً إياه من قدوم دورية. وسعرُ الـ "ميس كول" الواحد قد يصل الى عشرة ملايين ليرة لبنانية. وهو طالما وثق بوجوب إعطاء المهنة لتُعطيه!

ثمة حاجز جيش ثابت منذ أربعة أعوام عند مدخل الزعيترية، أسفل مبنى كلية العلوم في الفنار. الأمن يبدو لوهلة مستتبّاً. وعند يمين حاجز الجيش مبنى "سقط" في أيدي الجيش اللبناني بعد أن فرّ منه "أبو سلة" وزلمه. حوّله الجيش الى مركز له ووضع على سطحه برميلاً وأكياس رمل وعسكرياً يتناوب مع رفاقه على المراقبة من علِ . وجود الجيش اللبناني يمنح شعوراً بالراحة لكنه لم يمنع وجود عبثٍ في التفاصيل.

"الزعيتريون" دمهم "فائر". وإذا قال احدهم للآخر"صباح الخير" بشفتين مقلوبتين قد يرشقه برصاصتين. أمرٌ يبدو عادياً هناك. والجيش بعد كل "مشكل" يتدخل ويسحب المشاركين، يحاكمون ويعودون. أمرٌ عادي. وأمرٌ عادي أيضاً أن يبني ساكن هاتين البقعتين ما يشاء، أينما يشاء، ساعة يشاء. وأن يسحب الكهرباء من عمود الدولة. فالقانون ليس قانوناً على "الزعيتريين". هذا ليس معناه أنهم "خارجون على القانون" لكنهم اعتادوا الفوضى ومن يشبّ على شيء يشيب عليه.

كلية العلوم في الفنار بنت سياجاً عالياً منعاً من دخول أهالي الزعيترية، وخصوصاً أولادهم، الى حرمها. يقال انهم كانوا يدخلون ويخلعون الأبواب والشبابيك، يحطمون الزجاج ويبيعون الألمينيوم. أولادٌ اعتادوا أيضاً على الشغب. لكن، نكرر، هل يمكننا أن نلوم طائفة؟ هل يمكننا أن نلوم السكان، كل السكان، في البقعتين؟

وجود أم استقواء؟

هناك ناسٌ، من الساكنين، غير قادرين على إيذاء حتى النملة. ثمة شيعة أوادم كما هناك مسيحيون وسنة ودروز زعران. لكن، لماذا تزداد المشاكل التي يتسبب بها مواطنون ينتمون الى الطائفة الشيعية؟ هل هو واقع الإستقواء الذي يتصرف به بعض زعماء الطائفة يُعزز هذا الشعور في أبناء الطائفة؟ وهل الوجود الشيعي اليوم في هذه البقع الجغرافية تاريخي أم لزوم المرحلة؟

يشغلُ مدير عام حوزة الإمام السجاد العلمية الشيخ محمد علي الحاج العاملي مهمة إمامة مسجد الإمام علي بن أبي طالب في سدّ البوشرية وهو كان شاهداً على كثير من الخلافات بين السكان الشيعة والجوار، لا سيما مع الأشوريين الذين يناهز عددهم في مناطق سدّ البوشرية وزحلة والحدث والأشرفية الـ 12 ألفاً. لدى هؤلاء مطرانية في شارع متفرع من المنطقة المسماة الزعيترية بعدما كان يُطلق عليها خلال الحرب إسم منطقة الأشورية. الأشوريون أتوا الى سدّ البوشرية خلال الأحداث والشيعة هجروا منطقة سد البوشرية خلال الأحداث ويوم التقوا في بقعة واحدة استعاد الشيعة تسمية "الزعيترية" تيمناً بآل زعيتر الآتين بغالبيتهم من البقاع. ودارت مشاكل كثيرة حال دون تطورها الإمام محمد علي الحاج العاملي والأب الأشوري سافر خميس.

نمشي تحت شرائط "الدش" والكهرباء المتدلية، بعشوائية رهيبة، في كل مكان ونسأل عن حال المنطقة؟ ولماذا يعتبرها المسيحيون "مفتوحة" على مشاكل وألغام ويعتبرها المسلمون الشيعة "متروكة" مهملة؟

"هجموا الشيعة!"

لا ينفي الشيخ العاملي وجود تجار سلاح ومخدرات في ما مضى في المنطقة لكنه يلفت الى أنه تعامل مع الأجهزة الأمنية والمخابرات و"الأفاضل" لتنظيف المنطقة، ويستطرد: كانوا في كلِ مرة تحصل مشكلة بين شابين شيعي ومسيحي يقولون: هجم الشيعة على بيوت المسيحيين. وهذا ليس صحيحاً أبداً. تعاني هذه المناطق من إهمال الدولة. لا اهتمام. والأسوأ أن الأهالي الشيعة يشعرون في قرارة أنفسهم مهملين. ومنطقة سدّ البوشرية كانت قبل الحرب تكتظ بالسكان الشيعة وفيها أكثر من أربعين بناء لآل زعيتر. وبعد الحرب عادوا إليها. وتوجد فيها عائلات: نون وقطايا ومسمار وأمهز وحمادة وبليبل والزين وزين الدين وقدامة. وشيّد المسجد هناك بين عامي 1965 و1967 بمبادرة من آل زعيتر وبرعاية من السيد موسى الصدر ثم من السيد محمد حسين فضل الله. وكان يملك العقار بيار العسيلي ولعب الخوري يوحنا الكوكباني دوراً مساعداً في عملية بناء المسجد.

المسيحيون والشيعة، على ما بدا، "تعايشوا" في الماضي، لكن ماذا عن المنطقة اليوم؟

يتحدثون هناك عن وجود للدولة لكن ظاهرياً. وفي الموازاة يكثر الكلام عن وجود مجمع أمني، عسكري، في منطقة رويسات الجديدة، لا يعلم ما في داخله إلا الله و"حزب الله". هذا المجمع من ست طبقات. وعلى مسافة مئتي متر منه يوجد مجمع للمجلس الشيعي.

هل علينا أن نسأل: لماذا يوجد مجمع عسكري في منطقة شعبية جداً أم علينا أن نُسلّم أن "المقاومة" ارتأت هذا وهذا يكفي!

اللبنانيون الشيعة في المتن الشمالي وعلاقتهم بالمحيط مدار اهتمام من كثير من العلماء الشيعة الذين يؤمنون بالعيش المشترك. لكن هل يشعر شيعة المتن الشمالي بانتمائهم الحقيقي الى المنطقة؟

إشكاليتان.. وأصوات إنتخابية!

يلفت الشيخ العاملي الى أن الشيعة مكون أساسي من مكونات المتن الشمالي لكن حضورهم يتركز في المناطق الفقيرة والبائسة، وتكون المناطق الفقيرة حساسة، ما يفرض التعاطي معها في شكل دقيق، لما تولده من مشاكل. ويستطرد: تتلخص مشكلة الشيعة في المتن الشمالي في أنهم يعيشون في ظلِ إشكاليتين: الأولى مع الشيعة والثانية مع المسيحيين، على اعتبار أن الشيعة لم يحتضنوا من أبناء الطائفة الموجودين في مناطق المتن الشمالي، بدليل أننا لا نجد مؤسسات شيعية فاعلة، وفي الوقت نفسه فإن المسيحيين لم يهتموا بالوجود الشيعي في المتن، فضلاً أنهم لم يحبذوا هذا الوجود من أساسه. يضيف: يوجد 6000 ناخب شيعي في المنطقة وطالبنا باستحداث مقعد نيابي شيعي في المتن الشمالي، من أجل تعزيز حضور الشيعة، وارتأينا العمل على نقل مقعد نيابي شيعي من دائرة بعلبك- الهرمل الى المتن الشمالي. ووجهنا رسائل في هذا الخصوص الى قوى الطائفة الشيعية من "حزب الله" و"حركة أمل" والمجلس الإسلامي الشيعي لكن للتاريخ لم يتجاوب أحد مع هذه الخطوة باستثناء النائب عبد اللطيف الزين الذي اتصل بنا لتأييد هذا الطرح.

سؤالٌ يُطرح: لماذا لم تتجاوب الأحزاب الشيعية مع هذا الطرح؟

يبدو أن تلك الأحزاب تُفضل أن تتحكم بالنواب الستة الشيعة في البقاع بدل أن يُصبح النائب الشيعي السادس تابعاً بمعنى ما الى المسيحيين، يأتون به، كما يأتي السنة بالنائبين المسيحيين في بيروت الثانية .

رويسات الجديدة ومنطقة الزعيترية شيعيتان مثقلتان بكلِ أنواع المشاكل والتحديات وكلّ ما تحتاجان إليه هو أن تدخل الدولة و"تتدخل" بالفعل لا بالشكل.

في زمن الإنتخابات يلهث المرشحون وراء الناخبين ووجود 6000 ناخب شيعي قادر أن يُحدث فرقاً. في الإنتخابات النيابية الفرعية في 2007 مثلاً، بعيد استشهاد بيار أمين الجميل، لم يعطِ الشيعة أصواتهم الى الرئيس أمين الجميل بسبب خطابٍ تصعيدي له لم يعجبهم، أعطوا أصواتهم الى مرشح التيار الوطني الحرّ الدكتور كميل خوري ففاز الأخير وسقط الشيخ أمين. يستعيد الشيخ العاملي هذا الحدث. ميشال المرّ لو لم يستعن بأصوات الشيعة في المتن الشمالي لما ربح. هذا الكلامُ أيضاً للشيخ العاملي.

ضرورة!

"حزب الله" مرتاح جداً لوجود مناطق شيعية على طول الساحل اللبناني ولو لم تكن موجودة لأوجدها. ففي فكره الإستراتيجي يجعله الوجود الشيعي في المتن الشمالي وفي كسروان وجبيل مطمئناً الى أنه قادر أن يتحكم بالمسار الجغرافي حين يشاء وكما يشاء. "حزب الله" من زمان وزمان قال: بإشارةٍ بسيطة نستولي على كل الساحل من بيروت حتى الشمال.

التعايش جميل والعيش مع بعضنا أجمل. ثمة موبقات كثيرة في مناطق محسوبة على الشيعة في المتن الشمالي لكن ثمة مواطنين شيعة تُرفع لهم القبعة. المشكلة ليست في الوجود الشيعي بل في من يُسخّرون هذا الوجود أو يستغلونه لأغراضٍ متنوعة.

هناك صراخ في الجوار. "انتبهوا ما يقوصوا". هذه العبارة في ذاتِها توصد أبواباً كثيرة على الإنفتاح على مناطق الوجود الشيعي في المتن الشمالي. هناك من يستفيد من إبقاء المنطقة مقفلة؟ ربما. لكن إذا كان تدخل الدولة يبدأ من خلال حاجز الجيش الثابت المركون عند مدخل الزعيترية فإن السؤال: ماذا عن حدود هذا التدخل؟ هل في استطاعة الدولة سحب السلاح الذي ينطلق منه الرصاص في الفرح وفي الكره من داخل هذه المناطق؟ وهل يمكننا أن نعرف ما مدى صحة وجود مجمع "حزب الله" الأمني في رويسات الجديدة؟ وما اهدافه؟ مواجهة إسرائيل؟

خمسون ألف مواطن شيعي في منطقة المتن الشمالي، خمسون ألف لبناني، لكن مشكلتهم قبل أن تكون مشكلة الجوار أنهم يُستخدمون شماعة في استراتيجيات الطوائف ويُستغلون في مآرب البعض.

خمسون ألف شيعي، بينهم 25 ألفاً في المتن الشمالي و10 آلاف في النبعة و4000 في الفنار. الشيعة لبنانيون والمناطق المقفلة على عبثٍ وفوضى في ساحل المتن الشمالي لبنانية. لكن ليعيش كل هؤلاء مع بعضهم البعض يجب أن يعيشوا تحت جناح دولة وبلا أبوابٍ مقفلة.


هكذا بدأوا...
أصل إسم رويسات "الرويسة" ومساحتها 100 ألف متر مربع. وكانت زمان، في خمسينات القرن الماضي، تلة تُشرف على بيروت. وأحد كبار المستثمرين جبرايل صوايا طرح مشروعاً لتكون منطقة فيلات. لكن المشروع لم ير النور فانتقل طارح المشروع الى رابية أنطلياس إشتراها وبنى عليها الرابية. ساكنو تلة الرويسة كانوا عرباً رُحّل، يسكنون بيوتاً تنكية، وأوّل قطعة أرض اشتروها بنوا عليها تخشيبة. وبدأ تقاطر السكان من البقاع الى الرويسات بفوضوية، يأتون ويشيّدون البيوت التنكية ويسكنون من دون مراجعة البلدية، في حين كانت مناطق الساحل المسيحي ملزمة بالحصول على رخص سكن وكهرباء وهاتف ومياه. وهكذا انتقل الشيعة من بعلبك الى الرويسة والزعيترية وسد البوشرية والنبعة وبياقوت. أتوا وعملوا في أشغال بسيطة، وتمدّدوا تدريجياً الى الفنار والنبعة والجوار.


MISS 3