عيسى مخلوف

وقفة من باريس

تعطيل العقول!

28 تشرين الثاني 2020

02 : 00

قبل سنوات من وفاته، روى لي الشاعر والكاتب الجزائري باللغة الفرنسيّة، والأستاذ في جامعة السوربون، جمال الدين بن شيخ تجربته مع الطلّاب القادمين من العالم العربي والإسلامي والذين يطلبون منه أن يشرف على أطروحاتهم الجامعيّة، بل أن يقترح عليهم أيضاً موضوعات يتمحور حولها البحث. قال: "حين كنتُ أقترح على أحدهم أن يعمل على "ألف ليلة وليلة" كان يستقبل اقتراحي بالاستهجان، بل يظنّ أنّني أتهكّم عليه، فيطلب منّي اقتراحاً آخر يكون "أكثر جدّيّة"، وهذا يعني أنّه لا يعرف القيمة الفعليّة لهذا النتاج الذي ترك أثره العميق على الكتابة منذ القرن التاسع عشر، ولا موقعه في آداب الشعوب وثقافاتها". نُذَكِّر هنا بأنّ بن شيخ له دراسات قيّمة حول شهرزاد ولياليها، وقد قدّم، بالاشتراك مع المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل، إحدى أجمل ترجمات "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسيّة (صدرت الترجمة عن دار غاليمار" الباريسيّة ضمن سلسلة "لابلياد").

في السياق نفسه، أخبرني المفكّر الجزائري محمّد أركون عن علاقته بالطلبة الذين كانوا يفدون إليه، وهو في جامعة "السوربون" أيضاً، من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي. قال: "كنتُ أتابع تطوّر التعليم في البلدان العربيّة، منذ الستينات وحتى التسعينات من القرن العشرين، من خلال تعاملي مع الطلاّب القادمين إلى باريس، وكنتُ أكتشف، سنة تلوَ أخرى، كيف يتراجع تكوينهم العلمي، كما أكتشف نوعيّة أساتذتهم الجامعيّين وانقطاعهم عن العلوم الإنسانيّة وعن المعارف التي تُنتَج باللغات الأجنبية". أمّا عن المواضيع التي يقع اختيار الطلبة عليها، فقال أركون: "كنتُ أحثّهم على أفكار تتعلّق بتحليل الخطاب الديني، أو مقارنة تعليم الكلام في القرون الوسطى عند المسلمين وعند اليهود والمسيحيين، ولكنّهم لم يكونوا على استعداد للتفاعل مع هذه العلوم". صمتَ أركون برهة، ثمّ تابع حديثه: "في إحدى المرّات، طلب أحدهم أن يراني واستقبلته في مكتبي. كانت لحيته شبيهة بلُحى آيات الله. قال إنه يرغب في إعداد أطروحة جامعية تحت إشرافي. عندئذ سألته: وهل فكّرتَ في الموضوع؟ فأجابني بجدّيّة: "نعم أستاذ. أريد أن أدرس سرعةَ الرِّيح بين المدينة ومكّة عند وَقعَة بدر". أكتب هذه الكلمات التي سبق لي أن أتيتُ على ذكرها، وضحكة محمّد أركون المُجَلجِلة في ذاك المقهى الباريسي في "المونبارناس" تتردّد في مسمعي الآن.

الحكاية الواقعيّة التي رواها أركون، في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، هي نموذج صارخ عن ذهنيّة فئة من الآتين إلى فرنسا، أو إلى أيّ دولة أخرى، للحصول على شهادة دكتوراه. وهذه الذهنيّة هي محصّلة سياسة تربويّة وتعليميّة قائمة على الفكر التبشيري لا على الفكر النقدي المبني على التساؤل والبحث. بل هي تُصادر هذا الفكر وتحاربه علانيةً. والدول المنتشر فيها هذا التوجُّه تُعَدُّ بين أكثر دول العالم تراجعاً في مجال البحث العلمي الذي يُنظر إليه بصفته أحد أدوات التقدّم وأحد الركائز المهمّة في عمل الجامعات، ممّا يحكم على شعوب بأكملها أن تبقى في دائرة التقليد والاستهلاك.

يبقى السؤال: ما معنى التعليم إذا لم يساعد على الخروج من الجهل والخرافة، وإذا لم يعمل على تنمية الحسّ النقدي والانفتاح على بقيّة الثقافات وقبول الاختلاف والدفاع عن حرّيّة التعبير. هناك نسبة كبيرة من المدارس العربية لا تزال تخلط حتّى اليوم بين العلم والدين. عدد كبير من الأمثلة الموجودة في كتب القواعد، بدءاً من الصفوف الابتدائيّة، تجد مرجعيّتها في النصوص الدينيّة، وفي بعضها تأكيد واضح على رفض الاختلاف والتمييز ضدّ المرأة وغَلَبة الأفكار المسبقة والتصوّرات الغيبيّة. والحال هذه، لا يعود غريباً الاهتمام بالقشور على حساب الجوهر. يصبح من الطبيعي تفشّي ظاهرة حرف الدال. يصبح حرف الدال عند البعض أهمّ من الدكتوراه بمعناها العلمي، وتصبح الوجاهة الاجتماعية هي المطلب والأساس.

ما يدمّر نسيج المجتمعات العربيّة، وموقع العرب في العالم اليوم، ليس فقط سياسات الأطماع الخارجيّة، وإنّما أيضاً، وفي المقام الأوّل، نهج الأنظمة التي عملت، منذ الاستقلالات الوطنيّة حتى الآن، على عزل شعوبها عن العصر وتحنيطها في الماضي. كأنّ مهمَّتها الوحيدة إحكامُ إقفالِ العقول وإشهار العداوة للمستقبل.


MISS 3