روي أبو زيد

بين "لو كليزيو" ومجدلاني... عشق لبيروت

28 تشرين الثاني 2020

02 : 00

"أفكّر في لبنان، أفكّر في بيروت"، هكذا أعرب الكاتب الفرنسي العالمي جان ماري غوستاف لو كليزيو (Le Clezio) عن أسفه العميق لما يحصل في لبنان.

وكان الكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2008 بصفته "كاتب الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسّية، ومستكشفاً إنسانية خارج الحضارة السائدة"، حلّ ضيفاً في برنامج "بوميرانغ".

قرأ لو كليزيو نصاً غير منشور عن الوضع الصعب الذي يسود في لبنان حالياً. كما أنه أهدى هذه الكلمات الصادقة الى صديقه اللبنانـي شريف مجدلاني.

كتب لو كليزيو النص بكلّ آماله وآلامه وأحلامه عن وطن كان مقصد الشعراء والكتّاب والمثقفين.

وقال الكاتب المفعم بالحنين الى وطن زاره منذ سنوات عدّة وما زال مطبوعاً في قلبه ونفسه:

"لم أعتبر يوماً أنّ الأماكن في لبنان غريبة أو غير مألوفة: شواطئ البحر الأبيض المتوسط الرائعة، الجبال المتّشحة بالثلوج، غابات الأرز والصحارى. طريق تقصده شعوب من وراء البحار والبدو، قصور صور ومعابد بعلبك، بوابة تدمر.

لبنان بلد محفور سرّاً في ذاكرتي وفي قلبي. إنه الوطن حيث لديّ أصدقاء وأقارب وأجداد تقريباً! لكنّ هذا الوطن أصبح مدمّراً اليوم. تمكّن في ما مضى من مقاومة القنابل المحرقة، هجمات الأعداء، تصفية حسابات الدول على أرضه، الغزو وحروب الفصائل.

في صيف عام 1986، رأيت الرماد يتساقط من السماء إلى البحر في نيس، شعرتُ وكأنني أعاين دمار بيروت. لكن بيروت قاومت وقامـــت مجدداً من رمادها.

وها هي تتعرض اليوم للدمار بسبب لعنات ثلاث تلاحقها: الفساد السياسي، وباء كوفيد -19 والانفجار الزلزال في آب الفائت، إثر انفجار أطنان من نيترات الأمونيوم المُهملة في عنبر بمرفأ بيروت.

أتذكّر بيروت كما عرفتها قبل عشر سنوات، أفكر في شوارع الأشرفية المتراصّة، في المتاحف، بيوتها القديمة. تسبح بي الذكريات نحو قصر صيدا وما زلتُ أسمع صوت الأمواج المتلاطمة على الصخور. تراودني هذه المشاهد الرائعة وكلّي ثقة أنه على بيروت أن تستمر إذ ان العنف والكارثة لن يتمكّنا من محو معالم العاصمة الرائعة. أفكر في من أحبهم. أفكر في الرحالة، نيرفال، أفكر في جبران وأدونيس، وفادي اسطفان، واسكندر نجار، وفينوس خوري غاطا. يراودني صوت فيروز الملائكي، إنها لوحة تعكس ما كتبه شريف مجدلاني في كتابه "بيروت 2020". جميلة جداً وبسيطة جداً وستبقى هذه الصور خالدة الى الأبد، أو ما تبقّى منها.

أرى "تنكة الحديد" المتدحرجة على طول الطريق بفعل هبوب الرياح، تستقرّ أمام أحد المقاهي حيث يجلس البيروتيون من دون عزاء، عنيدون، يشاهدون الوقت يمرّ ويسخرون من واقعهم المرير".وكان لو كليزيو أطلق أخيراً ديوانه Le flot de la poésie continuera de couler حيث يأخذ القارئ في رحلة يجول فيها في أروقة الجمال العالمي للشعر الصيني الذي تعود أصوله الى عصر سلالة التانغ.

ويشير مجدلاني في حديث لـ"نداء الوطن" الى أنّ "نص لو كليزيو عن بيروت نابع من حبّه لبيروت خصوصاً وأنه يتحدّث عن أشخاص يمثّلون بالنسبة له العاصمة كفيروز واسكندر نجار وفادي اسطفان"، مردفاً أنّ النص "وجداني ونابع من الذات".

ويضيف أنّ "لو كليزيو اقتبس فكرته من الصفحتين الأخيرتين لكتابي "بيروت 2020" حيث تحدّث عن "تنكة" الحديد وهنا تكمن المفارقة".

ويوضح مجدلاني أنّ "لو كليزيو رأى قصة "التنكة" من وجهة نظره الخاص، إذ أنا شبّهتها باللبنانيين الذين تتقاذفهم رياح المجهول، بينما هو أعطاها بعداً آخر واعتبر أنّ "التنكة" تمثّل المشاكل في البلاد، لكنّ اللبنانيين وأينما تواجدوا سيبقون ثابتين، فيدوسون عليها ويكملون مسيرتهم بكلّ اندفاع وشجاعة".

ويشدد على أنّ "النصوص الرومنطقية التي كتبها الفونس دو لا مارتين وجيرار دي نيرفال في القرن التاسع عشر وتناولا فيها بيروت من وجهة نظرهما، ومن هذا المنطلق نرى بيروت اليوم من خلال هذه الكتابات والصور الأدبية الموجودة فيها".





ويوضح مجدلاني أنّ "تسمية "سويسرا الشرق" تعود للامارتين، حين رأى جبال لبنان وشبّهها بجبال الألب"، معتبراً أننا "نعيش وطننا من خلال هذه القراءات والأجيال اللاحقة ستتعرّف على واقعنا الحالي عبر الغوص في خبراتنا المكتوبة حالياً".

وبالحديث عن كتابه، يلفت مجدلاني الى أنّ كتابه "بيروت 2020" يعكس يوميات الانهيار التي تلاحق العاصمة، مشيراً الى أنّ "صورة الغلاف تصوّر بيروت التي تضمحّل وتتهدّم رويداً رويداً ولكنها تبقى جميلة بالرغم من كلّ الطامات التي أصابتها. ورسمتها الفنانة التشكيلية شفا غدار".

ولدى سؤالنا عن جائزة Femina essai الأدبية التي حاز عليها الكتاب أخيراً في فرنسا، يؤكد مجدلاني أنّ "الكتاب أصبح محطّ أنظار الكثيرين لأنه يسلّط الضوء على بيروت، في ظلّ اهتمام أوروبي بهذا الوطن خصوصاً من قِبل فرنسا وسويسرا وألمانيا وبلجيكا".

ويعتبر مجدلاني أنّ "هذا الاهتمام سببه التخوّف من انعكاس هذه الأزمات السياسية والاقتصادية التي يمرّ بها لبنان على بلادهم وفي مجتمعاتهم"، موضحاً أنّ "الكاتب والمفكّر يشعر بالمسؤولية دوماً في إيصال الرسائل المهمة ووضع الاصبع على الجرح".

وإذ يعرب مجدلاني عن فرحته "بإهداء لو كليزيو خصوصاً وأنه كاتب حائز على نوبل للآداب"، يشير الى أنّه "من الحزين أن توصف بيروت بهذه الصور بسبب ما آلت إليه الأوضاع أخيراً".

قال لامارتين في بيروت إنها " قائمة على رابية جميلة تنحدر شيئاً فشيئاً إلى البحر وقد قامت فيه بعض صخورها فرفعت عليها الحصون التركيّة".

وأضاف أنّ "ميناءها هو كناية عن لسان أرضيّ يمتد في البحر ويقي البواخر من الرياح الشرقيّة وكل هذه البقعة وما حولها مكلّلة بخضرة جميلة، وترى أغراس التوت قائمة على مدرَّجات من الأرض. وشجر الخرنوب والتين والدلب والبرتقال والرمان تلقي ظل أوراقها المختلفة الألوان على تلك الأنحاء، ووراءها الزيتون الرمادي، يزركش هذا المنظر الأخضر البديع".

وختم لامارتين وصفه قائلاً:"على مسافة ميل من المدينة انتصبت سلسلة جبال لبنان وفيها الأخاديد التي يضيع فيها النظر وتنحدر في طياتها مجاري المياه إلى صور وصيدا... واللاذقيّة. وقمم تلك الجبال المتفاوتة العلو في السحب البيضاء تسطع من انعكاس أشعة الشمس فتشبه جبال الألب بثلوجها".

لكن أين بيروت من هذا الوصف اليوم وما الذي حلّ بمرفئها وأهله بعد الانفجار المدمّر في الرابع من آب الفائت؟ هل ما زالت سلسلة جبال لبنان تشبه جبال الألب أم أكلتها الكسارات ونهشها الطمع؟ ما الذي ستقرأه الأجيال المقبلة عن وطن كان في يوم من الايام "وطن الأرز" و"سويسرا الشرق"؟