شربل شربل

كلفة العيش المشترك

28 تشرين الثاني 2020

02 : 00

منّا من يعتبر أنّ الحرب الأهليّة أُشعلت لتقليص مساحة العيش المشترك، ولضرب مفهومه، أو فلسفته، بوصفه سرّ التركيبة اللبنانيّة الفذّة التي تناقضها، تمامًا، فكرة دولة العدوّ اليهوديّة العنصريّة.

ومنّا من يبسّط الأمور ويرى أن تقليص هذه المساحـة جاء نتيـجـة طبيعيّــة لحـرب ذات أبعــاد طوائفيّة ومناطقيّة.

وفي مطلق الأحوال، فإنّ الحقيقة الراهنة هي أنّ التباعد الطوائفيّ فرض نفسه، في كثير من المناطق التي كانت ميدان تلاقٍ، وتجاور، وتعايش، وتقارب… لم تصل يومًا إلى مستوى الانصهار الحقيقيّ، بسبب غياب العلمنة، وتحديدًا الزواج المدنيّ، والاستمرار في الاتّكال على نظام الملل الذي أوكل أمور الأحوال الشخصيّة إلى محاكم وقوانين مذهبيّة، وبسبب واقع احترام الخصوصيّات وتحوّل الانشقاقات والتباينات المذهبيّة إلى تمايزات عشائريّة وعائليّـــة، وصولًا إلى استعمال المصطلـــح الفذّ "العائلات الروحيّة".

لقد كان العيش المشترك مثمرًا في ميادين كثيرة، أبرزها المدارس والجامعات الإرساليّة منها والوطنيّة، الدينيّة( الطائفيّة) والعلمانيّة؛ وكان مكلفًا، على صعيد الأرواح والأرزاق، وبلغت الكلفة ذروتها في مصيبة التهجير التي طاولت العديد من المناطق، وانطوت على مذابح مقزّزة.

في هذا الإطار، أتى كتاب الأب يوحنّا الحلو، النائب الأسقفيّ العامّ على أبرشيّة صيدا " كلفة العيش المشترك" الصادر عن دار" سائر المشرق" (٢٠١٩).

جملة أسباب دفعتني إلى قراءة هذا الكتاب. أوّلها أنّي هجّرت من شرق صيدا في العام ١٩٨٥ بعد عشر سنوات على اندلاع الحرب؛ وثانيها أنّي تتلمذت على الأب يوحنّا الذي كان يتولّى التعليم الدينيّ في تكميليّة صيدا للصبيان، وترسّخ في نفسي، كما في نفوس رفقائي، احترامٌ كبير له، وقد تميّز بقوّة الشخصيّة، ونصاعة الجبين، والصيت الحسن، والحرص على الكرامة، والجرأة في الدفاع عن الحقّ… وثالث هذه الأسباب هو معرفتي بأنّه لازم صيدا لأكثر من نصف قرن وبقي صامدًا في خلال أصعب الظروف، وإذا غاب عنها قليلًا فيكون إلى بيت الدين، مركز المطرانيّة، حيث كان قلب الشوف يغلي غليانًا.

والسبب الرابع أنّه لم يكن مجرّد شاهد على ما يجري، وإنّما كان مشكى الضيم، ومقصدًا لأبناء الرعيّة، من مختلف الطوائف، ولم يُعرف عنه تلكّؤٌ أو تراخٍ في الاستجابة لكلّ نداء؛ يسعى لوقف ظلم، أو تحرير مخطوف، أو تنفيس احتقان، أو رعاية مصالحة… ويمدّ يد المساعدة، خصوصًا بصفته مسؤول كاريتاس في المنطقة، في مسائل الإيواء، وتوزيع المساعدات، وبلسمة الجراح. وخامسها أنّني كنت أتابع مقالاته في جريدة النهار، وأقدّر عاليًا مستوى ثقافته، وإمساكه بناصية البيان، ما يجعل كتابته رفيعة مضمونًا وأسلوبًا، تشوّق القارئ للمتابعة.

أمّا في خصوص الموضوع المعالج، فهو يعنيني، بالدرجة الأولى ، كوني من البراميّة في شرق صيدا، وقد غادرتها في الخامسة والثلاثين من عمري، بعد أن تعلّمت في مدارس صيدا، وعلّمت في ضيعتي التي كانت ولازالت نموذجًا للعيش المشترك، قبل انتقالي إلى ثانويّة الأستاذ مصطفى الزعتري، حيث كنت أستاذًا للأدب العربيّ لعشر سنوات قضيتها بين عدد ممّن علّموني وممّن زاملتهم بكلّ احترام ومحبّة، قبل أن نُجبر على الرحيل. ومعروف عن هذه الثانويّة أنّها كانت مقصدًا لأبناء صيدا والقرى المجاورة من إقليم التفّاح وصولًا إلى منطقة الزهراني وإقليم الخرّوب في الشوف، إضافة إلى أعداد كبيرة من الفلسطينيّين، في القسم الإنكليزيّ. وعلّمت، بالتزامن، في مدرسة الإخوة المريميّين، التي كان معلّموها وطلّابها من مختلف "العائلات الروحيّة".

وهذه المنطقة، على العموم، منطقة هادئة، مسالمة، لم تعرف يومًا تشنّجات طائفيّة، أو صراعات مسلّحة. وليس فيها اعتداءات، وجرائم، وأخذ بالثأر؛ وليس فيها ما يوجب اقتناء السلاح أوحمله، وليس فيها مطلوبون فارّرون من وجه العدالة…

يضاف إلى ذلك أنّ ما جرى في هذه " الأبرشيّة"، هو جزء لا يتجزّأ من مأساة تاريخنا المعاصر، ترك جراحًا لم تندمل، وتغييرًا ديموغرافيًّا دائمًا وخصوصًا في الشوف الأعلى، وضرب العيش المشترك ضربة بالغة الأثر…

لقد أجاد الأب يوحنّا في نقل أبرز المحطّات السياسيّة والعسكريّة التي عاصرها، وفي الحديث عن مساهماته الخيّرة، للتخفيف من الأضرار ما أمكن، وعن محاولاته التي لم تكلّل بالنجاح في عدد من المسائل التي تفوق قدرة اللاعبين المحلّيّين.

لقد كان في ما كتبه ساردًا أكثر منه محلِّلًا. والمحلّل قد يصيب وقد يخطئ، أمّا السارد الموضوعيّ، الذي لا همَّ له سوى إرضاء نفسه، وإرضاء ربّه، والجهر بالحقيقة، كما كان الأب يوحنّا، فكتابه مرجِع موثوق من مراجع تاريخ لبنان، في نطاق جغرافيّ محدّد، هو نطاق أبرشيّة صيدا المارونيّة التي تضمّ الشوف ومعظم الجنوب…

لا تهدف هذه المقالة إلى عرض مضمون الكتاب الذي يمتدّ على أكثر من أربع مئة صفحة من القطع الكبير، قرأتها كلمةً كلمةً، وإنّما أردت منها أن أضمّ صوتي إلى صوت المؤلّف في التحسّر على تقلّص مساحة العيش المشترك الذي كنت، ولم أزل، على رغم معاناة التهجير ومفاعيله، أؤمن بضرورة إعادة تعزيزه وصيانته، حفاظًا على لبنان الانفتاح، لبنان التسامح، لبنان الحرّيّة، لبنان الحقيقة، لبنان الرسالة، لبنان اللبنانيّ.

كذلك أردت منها " الترويج" بكلّ ما في الكلمة من معنى، لهذا الكتاب الشهادة، علّكم تقرأونه وتتهادونه، وتأخذون منه العبر، وتترحّمون على مؤلّفه.