عيسى مخلوف

الحياة في الشاشات!

16 كانون الثاني 2021

02 : 00

"لم يشهد تاريخ البشرية تدفُّق المعلومات والصُّوَر كما هي الحال الآن، ولم يكن لدينا هذه الكمّيّة من الوقت الحرّ الذي يسمح لنا بالالتفات الى إمكانات الدماغ اللامتناهية، هذا الكنز الأثمن من كنوز العالم كلّها. لأنه يفتح الباب واسعاً أمام الابتكارات العلميّة والإبداعية". هذه هي الفكرة الأساسيّة التي ينطلق منها كتاب الباحث الفرنسي جيرالد برونّيه وعنوانه "نهاية العالم المعرفي" الصادر مؤخراً عن "المنشورات الجامعية الفرنسيّة" في باريس.

يلاحظ المؤلف في دراسة موضوعية تؤرّخ للنشاط الإنساني منذ القدم حتى اليوم أنّ نسبة الوقت المخصّص للعمل في فرنسا تراجع كثيراً. في العام 1800، بلغت هذه النسبة 48 في المئة، بينما هي اليوم 11 في المئة، وذلك بفضل التطوّر التقني والتكنولوجي الذي خفّف عن كاهل البشر وطأة الأعمال اليدويّة والمنزلية وغيرها. وإذا كانت الأجيال التي سبقتنا قد فكّرت طويلاً بما سيؤول إليه عالم المستقبل، وبما وصلنا إليه اليوم بالفعل، فإنّ الواقع الراهن يطرح أسئلة عديدة حول كيفيّة التعاطي مع التقدّم، إيجاباً وسلباً. هل هو كما حلم به وتمنّاه الأجداد: مصدر سعادة وراحة للإنسان، أم أنه يسير في طريق مختلف وقد يتحوّل كابوساً حقيقيّاً يقضّ مضاجع الجميع.

كان توفير المزيد من الوقت للدماغ وفتح آفاق جديدة للثقافة والإبداع جزءاً أساسياً من هذا الحلم. غير أنّ هذا الوقت المُعطى والمتزايد، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، راح، وفق جيرالد برونّيه، يتبدّد في اهتمامات أخرى، ويقصد بها، هنا، استعمال الشاشات المختلفة المتمثّلة في التلفزيون والأجهزة الإلكترونية والهواتف المحمولة بوتيرة لا سابق لها. وإذا كان الانترنت يوفّر إمكانات هائلة تفتح أبواب المعرفة والكتب، والاطّلاع والتخزين، من خلال محرّكات البحث، فهناك، داخل هذا النظام التكنولوجي أيضاً، ما يساهم في حرف النظر عن لحظات التأمل الضرورية للاكتشاف والتقدّم، إذ إن نسبة كبيرة من الذين يستعملون هذه التكنولوجيا أصبحوا من المدمنين على التعاطي مع الجزء السطحي منها بهدف بلوغ الرضى السريع وحصد "اللايكات" والهرب من السأم. ولقد جاء في أحد البحوث التي أجريت في السنوات الماضية أنّ نسبة التفاتنا إلى شاشات هواتفنا يتجاوز المئتي مرة في اليوم الواحد، ممّا يجعلنا دائمي التأهُّب والانتظار.

شلاّل الإمكانات والمعلومات التي توفّرها التكنولوجيا الحديثة بدلاً من أن نستعملها نحن، نستفيد منها ونلعب بها، أصبحت هي التي تستعملنا وتلعب بنا. نسبة الاستهلاك اليومي للمنظومات الرقميّة بلغت أقصى حدّ عند المراهقين، وتجاوزت الستّ ساعات. يعمل منتجو هذه المنظومات والوسائل على جذب مستعمليها من خلال التركيز على الغرائز البدائية المتجذرة في النفوس، وفي مقدّمها الجنس وما يحيل الى العنف والتفاعل مع الخوف.

أحد المواقع الإباحيّة الأكثر شهرة في العالم قدّم في العام 2019 إحصاءات عن عدد زيارات موقعه، وقد بلغت 115 مليون زيارة في اليوم الواحد. وضعَ الموقع في متناول الزوّار قرابة سبعة ملايين "فيديو" تحتاج مشاهدتها الى 169 سنة. أمّا المعطيات التي قدّمتها شركة "غوغل" فتفيد بأنّ الدول العربية والإسلامية هي من أكثر دول العالم استهلاكاً للبورنوغرافيا. في موازاة ذلك، تطوّر استعمال آلات التصوير الفوتوغرافي التي تساعدنا على التقاط صور لانهائيّة لأنفسنا، ولكلّ ما نفعله ونستعمله في حياتنا اليومية، بما في ذلك الأطباق والصحون والطناجر وما فيها من طيّبات، تعزيزاً للنرجسية التي تبحث عن موقع لها في هذا الطوفان المعلوماتيّ الذي نلجأ إليه هرباً من وحدتنا وعزلتنا فنجد أنفسنا أكثر وحدة وعزلة.

يشير الكتاب أيضاً إلى استعمال "السيلفي" وضحاياه بالمئات، وأولئك الذين يراقبون هواتفهم وهم وراء مقاود السيارات أو في الشوارع. هذا كلّه، بالنسبة الى جيرالد برونّيه، مخزون الوقت الضائع الذي كان بالإمكان استعماله في إعطاء الدماغ الفرصة اللازمة للإبداع والابتكار والتفكير. ويشير، في هذا الصدد، الى ما بات يعرفه الجميع، أي إلى الذين ابتكروا وسائل التواصل الاجتماعي ويحذّرون أبناءهم منها لأنهم يعرفون مدى تأثيرها السلبي عليهم وعلى تحصيلهم العلمي وإقبالهم على القراءة.

كان الظنّ، في البداية، أنّ هذه الوسائط الحديثة هي من نصيب الأغنياء فحسب، فإذا بالفقراء هم أكثر المتهافتين عليها ومنحها الوقت بلا حساب. ولا خروج من هذه المتاهة إلّا بإعطاء الفرص اللازمة للتعليم والتوجيه، وخلق الظروف الملائمة لاستغلال إمكانات الدماغ إلى أقصى حدّ ممكن، والعمل على فكّ الارتباط المَرَضي بالشاشات التي تحوّلت أماكن إقامة وسكَن.


MISS 3