مارينا كورين

نجم جديد تحت مجهر علماء الفلك!

16 كانون الثاني 2021

المصدر: The Atlantic

02 : 00

في الشهر الماضي، مع اقتراب انتهاء العام 2020 واستكمال كوكب الأرض أحد أغرب مداراته حول الشمس، انتشر خبر مفاده أن علماء الفلك رصدوا إشارة غامضة من نجم آخر.

استناداً إلى خصائص محددة في موجات الراديو، افترض علماء الفلك أن النجم لا يشتق من عملية طبيعية مثل الانفجار الكوني بل أنتجت التكنولوجيا الإشارة الصادرة من جهة النجم.

بدت الإشارة المعروفة باسم BLC1 مثيرة للاهتمام، لكن عندما تسرّب خبر رصدها إلى صحيفة "ذا غارديان"، أعلن علماء الفلك الذين اكتشفوها (وآخرون في هذا المجال) سريعاً أن التكنولوجيا مصدرها الأرض على الأرجح. خلال الأسابيع التي تلت انتشار الخبر، كثّف الباحثون عملهم وهم يظنون الآن أن الإشارة قد تكون اصطناعية لكنها ليست من صنع كائنات فضائية على الأرجح.

تقول صوفيا شيخ، خريجة جامعة ولاية بنسلفانيا ورئيسة الفريق الذي يحلل الإشارة الجديدة: "لا شيء يثبت أن كائنات فضائية تحاول أن ترسل لنا رسالة معينة. ولا تحمل الإشارة أي معلومات، بل إنها مجرّد مقطع صوتي يشبه الصفارة. حتى أنها تشبه الأشياء التي ننتجها على كوكب الأرض". شيخ هي جزء من مشروع Breakthrough Listen: إنه البرنامج الذي يُموّله ملياردير روسي للبحث عن أدلة حول التواصل مع الكائنات الفضائية.

لكن يُعتبر هذا الخبر مختلفاً عن النتائج التي شهدتها السنوات الأخيرة، من ناحية واحدة على الأقل. يُعرَف هذا النجم باسم "بروكسيما سنتوري" (أي "قنطور الأقرب") وهو باهت لدرجة ألا تشاهده العين المجردة، لكنه أقرب نجم إلى كوكب الأرض. إذا غادر البشر يوماً حدود نجمهم وتوجّهوا نحو نجم آخر، سيتجهون على الأرجح نحو "بروكسيما". قد لا يجدون شيئاً هناك، لا مستعمرة من الميكروبات ولا مجموعة من الكائنات المتطورة. لكن يمكن اعتبار "بروكسيما" هدفاً منطقياً في إطار الجهود الرامية إلى استكشاف الكون بحثاً عن ظاهرة مألوفة واستثنائية في آن.

يقع نجم "بروكسيما" على بُعد 4.2 سنوات ضوئية فقط داخل نظام ثلاثي النجوم اسمه "ألفا سنتوري". يظهر "بروكسيما"، منذ اكتشافه في العام 1915، في قصص الخيال العلمي المرتبطة بالأفلاك بين النجوم وإمبراطوريات الكائنات الفضائية. حين توسّع مجال "البحث عن ذكاء خارج الأرض" في بداية الستينات، كان "بروكسيما" من أوائل الظواهر التي فكّر فيها الباحثون. وعندما يتجاوز البحث حدود الكون المرئي، يصبح قرب المسافات عاملاً مهماً.

لا يشبه "بروكسيما" الشمس، على عكس نجمَيه الشقيقَين في نظام "ألفا سنتوري"، بل إنه أصغر حجماً وأكثر برودة وأقل سطوعاً. لكنه يشمل كوكبَين على الأقل، أحدهما "بروكسيما سي" الذي يدور على مسافة أبعد من النجم وكأنه نسخة مصغّرة من كوكب نبتون، والثاني هو "بروكسيما بي" الذي يقع على مسافة أقرب لدرجة أن تقتصر السنة فيه على 11 يوماً. يكون كوكب "بروكسيما بي" صخرياً وهو بحجم الأرض تقريباً ويقع داخل المنطقة النجمية الصالحة للسكن حيث تسمح الحرارة بتدفق الماء على سطحها.

لا نعرف بعد شكل "بروكسيما بي" ولا يفترض علماء الفلك الذين يدرسون إشارة BLC1 أن الشعاع يشتق من هناك. وعلى عكس محتوى قصص الخيال العلمي السابقة، سيكون "بروكسيما بي" مكاناً ثانياً مريعاً لنقيم فيه، حتى أنه ليس مناسباً لصمود أي شكل من مظاهر الحياة رغم مناخه المعتدل على الأرجح. من المعروف أن النجوم التي تشبه "بروكسيما سنتوري" تطلق سيلاً من الأشعة وتكون هذه الكمية كافية لتجريد أي كوكب مجاور من غلافه الجوي على مر سنوات عدة.

ربما كانت حماسة الناس بشأن إشارة BLC1 مبكرة، لكن إذا سمع البشر يوماً أخباراً عن حضارة متقدمة للكائنات الفضائية، قد تصدر أي مؤشرات محتملة من مكان مجاور. ربما تبدو الفرضية القائلة إننا قد نكتشف شكلاً من الحياة الذكية في نجم مجاور لكوكب الأرض من بين مئات مليارات النجوم في مجرّة درب التبانة فكرة متغطرسة، وهي كذلك فعلاً، لكنها ليست مستحيلة. توضح شيخ: "قد يكون اكتشاف حياة ذكية على "بروكسيما" احتمالاً وارداً أكثر من أي مكان آخر على الأرجح. إذا افترضنا أن الكائنات الفضائية منتشرة في كل مكان وأن جميع النجوم تشمل حضارة مشابهة للحضارة البشرية، قد ترسل لنا كلها إشارة في مرحلة معينة. لكنّ الإشارة التي نشاهدها أولاً هي الأقرب إلينا لأننا نستطيع رصدها".

لنفترض أن حضارة متقدمة على أحد النجوم تريد التواصل مع سكان نجم آخر يقع على بُعد سنوات ضوئية كثيرة. لإقامة أي شكل من التواصل عبر هذه المسافات الشاسعة، قد تنشئ تلك الحضارة شبكة تشبه أبراج الهواتف الخليوية، ما يسمح لها بنقل إشارات الراديو من نجم إلى آخر. في هذا السياق يقول جايسون رايت، عالِم فلك في جامعة ولاية بنسلفانيا وعضو في المجلس الاستشاري لمشروع Breakthrough Listen: "التواصل بين النقاط النهائية للنجوم صعب جداً لأن الإشارات تَضْعف بسرعة شديدة في الفضاء. وفق هذا السيناريو، ليس مستبعداً أن يكون نجم "بروكسيما" أول مكان، أو ربما المكان الوحيد، الذي يرسل الإشارات إلينا".

يعتبر هذا السيناريو الشمس مجرّد محطة بسيطة ضمن شبكة عملاقة وغير مرئية لا يعرف صانعوها بوجود كوكب الأرض. ماذا لو كانت الرسالة موجّهة لنا مباشرةً؟ يوضح رايت في منشور حديث: "إذا كانت الكائنات الفضائية تحاول جذب انتباهنا، ستضطر لتخمين النجوم التي نقرر استكشافها بحثاً عن إشارتها. تكثر النجوم التي يمكن الاختيار بينها. لكن ما هو أوضح مكان لبدء البحث فيه"؟ إنه نجم "بروكسيما"!





لكنّ سماع الإشارات الصادرة من نجم "بروكسيما سنتوري" يختلف عن محاولات التوجّه إليه. لن تغادر البعثات التي سافرت إلى أماكن أبعد من الفضاء، مثل مركبة "فوياجر" الفضائية التابعة لوكالة "ناسا"، نظامنا الشمسي قبل عشرات آلاف السنين. وإذا أرسلنا مجموعة أخرى من تلك المركبات الفضائية الآن، ستحتاج إلى أكثر من 70 ألف سنة لبلوغ "بروكسيما سنتوري". لكن يحاول برنامج استكشافي آخر، بدعمٍ من المستثمر الروسي نفسه، أن يرسل مركبة فضائية صغيرة وعاملة بالليزر لدراسة نظام "ألفا سنتوري" خلال النصف الأول من هذا القرن، ويأمل العلماء في هذا المشروع أن تقتصر الرحلة على 20 سنة. تقول ليزا كالتينيغر، عالِمة فلك ومديرة "معهد كارل ساغان" في "كورنيل" (لم تشارك في البحث الجديد): "لا نعرف كيفية السفر إلى هناك بعد، لكنه أول نظام يسمح لنا بالتكلم عن احتمال السفر بين النجوم من دون أن تبدو الفكرة جنونية".

تخطط صوفيا شيخ وزملاؤها لنشر تقرير رسمي قريباً ومن المتوقع أن تنضم إشارة BLC1 إلى مجموعة من الإشارات الأخرى التي كانت مُحيّرة سابقاً قبل أن يتبيّن أن مصدرها مألوف وأرضي، على غرار القمر الاصطناعي العسكري الروسي أو الغبار الكوني العادي. يسهل أن تتسلل المصادر الأرضية لموجات الراديو، بدءاً من موجات المايكروويف في المطابخ وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية عالية التحليق، إلى مهام المراقبة. تُحلل شيخ وفريقها عن قرب البيئة الراديوية في محيط مرصد "باركس" في أستراليا يوم التقط التلسكوب الإشارة بحثاً عن تفسير محتمل لما حصل، حتى لو اقتصر هذا التفسير على تدفق موجات الراديو عبر باب مفتوح. في العام 1998، بدأ علماء الفلك في المرصد نفسه يرصدون إشارات راديو غريبة ولم يجدوا لها تفسيراً طوال 17 سنة إلى حين تركيب جهاز استقبال جديد والكشف عن مصدر الإشارات: تبيّن أنه المايكروويف الذي استعمله الموظفون لتسخين غدائهم!

رغم جاذبية نجم "بروكسيما" وقرب مسافته إذاً، يعجّ الكون بنجوم أخرى تستحق الاستكشاف. منذ عشر سنوات كشفت تقديرات جيل تارتر، عالِمة فلك وواحدة من مؤسّسي معهد "البحث عن ذكاء خارج الأرض"، أن علماء الفلك اكتفوا باستكشاف مساحة فضائية تساوي كوباً واحداً من مختلف محيطات الأرض مُجتمعةً. استحدث علماء آخرون هذا التقدير وباتت تلك المساحة تساوي حوض استحمام ساخن الآن. لا يزال الطريق طويلاً أمام المعهد. تضيف تارتر: "لا ينهض المرء في الصباح ويقرر أن يرصد إشارة معينة في ذلك اليوم. وفق جميع الاحتمالات، سيأوي ذلك الشخص إلى فراشه خائباً في تلك الليلة".

مع ذلك، تشعر تارتر بالتفاؤل. من خلال اكتشاف الحقيقة، لن نتمكن من فهم موقعنا في الكون الشاسع فحسب، بل سندرك أيضاً أن حضارتنا قادرة على الصمود في مدارات تفوق ما نتصوره شرط أن نتعامل مع هذه المعطيات بالشكل المناسب. يعني هذا التواصل الآن أن الكائنات الافتراضية التي وجّهت لنا هذه الرسالة (بغض النظر عن طبيعتها) موجودة على مسافة قريبة بما يكفي من محيطنا الكوني، لا في المكان فحسب بل في الزمان أيضاً. هي ترسل لنا الإشارات ونحن نتابع البحث. تقول تارتر: "في مجرّة عمرها 10 مليارات سنة، لا يمكن أن يحصل ذلك إلا إذا كانت الحضارات التكنولوجية طويلة الأمد. إذا نجحنا في مهمتنا في معهد "البحث عن ذكاء خارج الأرض" إذاً، سيثبت هذا النجاح أن مستقبلنا سيكون مديداً. اكتشفت كائنات أخرى كيفية الصمود طوال هذه الفترة ويعني ذلك أننا نستطيع القيام بالمثل".