رفيق أبو غوش

"تأثيث مع أنثى شاعرة" في لوحة الفنان شوقي دلال

3 شباط 2021

02 : 00

الحياة تعود إلى اللوحة عند شوقي دلال مع عودة "إنانا" التي اغتربت ربّما هرباً من واقع غير شعري وغير فنّي، وفي عودتها هذه أبهرت وأفرحت، وراحت اللوحة تزدان باللون والرّقص والخيلاء، وإذا كان لا بدّ من عنونة اللوحة فالعنوان الأقرب إلى طبيعتها هو "تأثيث مع أنثى شاعرة".

أهم المداخل إلى اللوحة هو المدخل البصري الذي يمنحك مفاتيح الأعماق للولوج إلى سيميائية الدّلالة، وأوّل ما تقع عيناك عليه هو هذا الفرح الغامر الذي تعكسه ألوان اللوحة الفاتحة والمتنوعة، والتي تصدمك بحجم الانبهار المنبعث من السّطح والمتمركز في الفضاء المفتوح من دون إطار، والذي يمنح النّاظر أفقاً واسعاً للتأويل لتبدوَ اللوحة وكأنها قماشة جمالات مباحة ومفتوحة لكل النّاظرين. وما يميّز اللوحة أيضاً تلك الوجوه الأنثوية التي تغطّي القسم الأكبر منها، وهي وجوه رامزة إلى تمركز الجمال في فضاء الفنّان ودلالة على قوّة الحياة والحضور، وقدرة إنانا على صنع الجمال والفرح، وما الأسلاك الرقيقة التي تتشابك في تقسيمات اللوحة إلا شرايين الحب والجمال التي تجعل الحياة أخفّ وطأة والمكان أكثر إيحاءً، والفضاء معجوقاً برشقات الجمال المتمثّلة بتوزيع الحبر العشوائي في الفضاء المفتوح على الأبعاد المضمرة.

وفي وسط اللوحة أيضاً مشهد الرّجل المتشبّث بالمكان والمتماهي معه بحيث يشكّل مع الطريق فسحة للخروج من جاذبية المكان إلى الأبعاد اللامتناهية، في حركة دورانية لتكسب الحياة معنى الديمومة والتّفاؤل وانتاج الفرح الذي يحتاجه العالم بعد النكبات التي تعصف به. وما وجود إنانا البورجوازي في وسط اللوحة إلا إعلان لهذا الفرح بحيث تشكّل برمزيّتها نقطة الدائرة في توليف حال الفرح هذه ورشقها لتتشظّى محدثة مهرجاناً من الألوان والإيقاع والحب التي تتآلف وتتعاضد لتشكّل سيمفونية الجمال في أذن المتلقّي والنّاظر.

إن تحرير اللوحة من سطوة الزّمن وحصرها بسيادة المكان لهو انعكاس للجزء الدّاخلي من حركة النّفس وحركة فيزياء الألوان التي تتحرّك وفق إيقاعات الحالة ببعدها الصبغي وجغرافيتها الشّكلية، وعليه فالنّفس متصالحة مع بعدها الرّوحي، وفي هذا الهدوء تنتج سمفونيتها التي تمنح من الطبيعة مخزون الدلالات الطافحة بالفرح والجمال والمفتوحة على التأويل وعلى كثيرٍ من القراءات التي تتحرّك داخل مدار الإحساس ما يجعل الحياة أخف وطأة على الرّغم من القلق الذي ينتابها. إلاّ أن القلق يستوطن الفضاء المفتوح لأنه سمة ملازمة للإبداع والتأمل وصولاً إلى خلق رؤية فنية تمنح من المخزون الجمالي شرارة وهجها.

وإذا كانت اللوحة في الأعلى مكتملة تزيّنها وجوه النّساء الدّالة على الخصوبة والحياة وإرادة الاستمرار فإن اللوحة ينقصها الاكتمال في أسفلها، إذ يقبع الرّجل الواقف على القارعة في دائرة النّقص من خلال عدم اكتمال أصابع قدميه الدّالة على عبثيّة السّير في العالم السّفلي، وفي هذا تحفيزٌ له على التعلّق بالأعالي حيث الاكتمال وبوابات العبور إلى الكون الواسع وسع أحلام التائقين إلى الحريّة.

لقد شغلت إنانا فضاء التّفكير على مساحة اللوحة، وبسطت رداءها الجميل مبدعة وخالقة مع بنات جنسها حياة جديدة نقلت صورة المونولوغ الدّاخلي إلى ذهن المتلقّي ووجدانه، فأمتعت وتركت بصمتها الأنثوية على فضاءٍ أثير. فكل مكان لا يُؤنّث لا يُعوّل عليه. ونحن في هذا المقام نطالب الفنّان أن يزرع الفرح والتّفاؤل كلّما أغوته إنانا، وأن يرشقنا دائماً بحبرٍ من عبير الأنوثة الذي لولاه لتحوّلت الحياة إلى فضاءٍ مستباح لذكوريّة مقيتة أثقلت الأرض وحوّلتها إلى غربةٍ دائمة.


MISS 3