نوال نصر

المأتم الشعبي "بالميّتة" 400 ألف للمسلم و600 دولار للمسيحي

وراك وراك حـتّـى الـقـبـر!

6 أيلول 2019

01 : 35

كلّ شيء في الدنيا تعب إلا الموت فهو نهاية كُلّ تعب! نعش من خشب "أم دي أف" وطبع أوراق نعي وباقة ورد أبيض بلدي وساندويشات شغل بيت. المجموع: 600 دولار أميركي. الله رحمك يا ميّت قبل إقرار الضرائب الجديدة.



الدولة مشغولة بحالِها، ولا يستقيم لها حال (هذا إذا استقام) إذا لم يدفع ناسها من عرقِ جباههم ثمن اقتصادها المرّ! وعلى المواطنين أن يضحوا دائماً ببعض الإمتيازات (إذا لم يكن بالكثير) كي تربح هي وتعيش وتعيش وتعيش!

وفي عزِّ القحط ما عاد ميسّراً حتى الموت. والسؤال: هل بقدرةِ المواطن، ذي الدخل المحدود، دفع ثمن مستحقات الموت؟ وهل عليه من الآن أن يُخبئ القرش الأبيض الى يومٍ كاحلٍ قاتمٍ أسود تتردد فيه، فوق قبره، عبارة: الله يرحمه؟

الله يرحم الموتى والطيبين في بلدٍ يبلعون فيه لحم الناس ويرمون عليهم نار الضرائب! والآتي يُقال أعظم!

فماذا عن تلك اللحظة العظيمة الفاصلة ما بين حياة وموت واستراحة الطيبين في صناديق خشبية؟

فلنمسك ورقة وقلماً ولنحسب كلفة الموت قبل إقرار الضرائب الجديدة وبعدها.

"إجا الشغل"

في بيروت، في منطقة الأشرفية بالتحديد، على مسافة أمتار من كنيسة ومقابر مارمتر، مكتب لتأمين لوازم دفن الموتى. كل المنطقة تعرفه. صاحبه "يُبخّر" المحل كي يأتيه الرزق. فالبلد معطل و"الشغل واقف". لكن هل نموت باختيارِنا؟ يجيب: لا، لكن أهل الميت باتوا يبحثون عن شركة دفن الموتى الأرخص ويساومون على الأسعار ويختصرون في الأزهار وفي التفاصيل. يدق الهاتف. يُردد العامل: خير. ينظر صاحب الشركة في عيني العامل الذي يهز رأسه الى تحت دلالة الى الخبر السار. "إجا الشغل". يقفل الخط ويقول لنا: "وجكم خير".

بدأت الحكاية.

نقصد شركة "الراحة الأبدية لدفن الموتى". صاحبها آلان الباشا. والشغل "عال". لكن ماذا عن الأسعار؟

تختلف الأسعار باختلاف الأنواع. فلنأخذ النعش مثلاً الذي قد يكون عادياً رخيصاً أو وسطاً أو باهظاً. التابوت الرخيص مصنوع عادة من خشب "أم دي أف" أي "كرتون مقوّى" وهو "شعبي" لكن من عيوبه انه غير قادر على تحمل الضغط العالي ومعرض للكسر بسهولة. يبدو لهذا نرى شركات لوازم الموت تركض قبل أهل الميت لحمل النعش بعناية شديدة أثناء حمله الى المدفن كي لا "يفرط " بين الأيدي. يبدأ سعر هذا النوع من النعوش بـ 250 دولاراً أميركياً. وهل سيزيد السعر بعد إقرار الضرائب الجديدة؟ هو خشبٌ محلي ويفترض لا إلا إذا "لحقت الأسعار بعضها" مثل العادة!

قشرة سنديان... أرخص

الميسورون يطلبون أن يكون النعش من خشب السنديان أو "الماسيف" أو الجوز. السنديان هو الأغلى ويصل سعر نعش السنديان الى 1800 دولار. تريدون نعشاً من السنديان بسعرٍ أقل؟ هناك نعوش ملبسة بالسنديان. قشرتها سنديان. ولا يزيد سعرها عن 1250 دولاراً.

كثيرون لا يعرفون بوجود أنواع من الخشب أغلى من الذهب. خشب "السبستان" مثلاً وهو ينمو في وسط أميركا وجنوبها وفي المكسيك. وهناك خشب "الدلبرجيا" وينمو في المناطق الإستوائية في أميركا الوسطى والجنوبية وأفريقيا وفي مدغشقر ويستخدم في آلات النفخ الموسيقية.

فلنبق هنا مع خشب "أن بي أف". أرخص في زمن القحط.

في طرابلس، شركة باسمِ "المؤسسة الإسلامية لإكرام الموتى". صاحبها الحج كمال السيّد وهو يلفت الى أمرٍ يعتمده تجار الموت في لبنان. المسيحيون يدفنون في نعوش أما المسلمون فيرقدون بأكفانٍ. وهناك، كما تعلمون، كثير من المسلمين المنتشرين في أميركا وأفريقيا يموتون في الخارج ويعودون الى بلادهم في نعوش خشبية باهظة الثمن. وهنا يُصار الى تكفينهم ووضع النعوش جانباً، فيأتي التجار ويشترونها بأسعار بخسة. بأقل من مئة دولار أحياناً ويعودون ويبيعونها الى الأغنياء من المسيحيين بأسعار مرتفعة.

سؤالٌ يُطرح تكراراً، كم هي كلفة مأتم لبناني مسيحي ولبناني مسلم في بلدنا لبنان المفتوح على ضرائب قادمة جارية؟

فلنذهب الى طرابلس، الى عاصمة الشمال التي توصف "بأم الفقير" لنرى كم يُكبد مأتم فيها؟ يجيب الحج كمال السيّد: لا تزيد الكلفة عن 400 ألف ليرة لإنسان عادي.

تربة الفقير... والغني

والإنسان العادي في بلادنا هو من عاش فقيراً ومات فقيراً (بعدما دُمرت الطبقة الوسطى). وتشمل الكلفة الأوقاف مع غسل الميت وكفنه ونقله في الإسعاف وصولاً الى التربة. هذا السعر، بنفس المواصفات، يلامس في بيروت المليوني ليرة لبنانية. وفي طرابلس، أقيم مدفن في أبو سمرا يُدفن فيه مجاناً من لا يملك "تربة" عملاً بمقولة إكرام الميت دفنه. أما الميسور فيدفع ثمن التربة ألف دولار أميركي. وتُصبح ملك عائلته ومساحة التربة مترين بمتر. وحول القبر هناك مصلى وحدائق. سيرتاح الميت من الدنيا ويتنعم بمرقد عنزة في لبنانه.

ماذا عن كلفة شراء قبر في الأشرفية؟

سعر "التربة" أغلى بكثير فهنا بيروت. هنا الأشرفية. والأغلى أجرة نكش الحدائق المحيطة وسقي الزهور وتنظيف الأرض. وكل شي بحقو.

أسعار الكفن عند المسلمين تتبدل. فالإنسان العادي، البسيط، يقبل بالكفن العادي الذي يدخل سعره في كلفة المأتم في شكل عام، أما الإنسان الميسور فيطلب قماشة باهظة فيتغير السعر. الرئيس نجيب ميقاتي على سبيل المثال طلب تكفين والدته بقماشة مطرزة أتوا بها من مصر. هناك من يطالب بقماشة إيطالية. غير أن العاملين في شركات دفن الموتى فيبتسمون في سرهم مرددين: الكفن كفن.

المسلمون لا يهتمون كثيراً بالورود عكس المسيحيين. وأسعار الورود كما تعلمون تختلف. هناك من يطالب من المسيحيين بسلة واحدة، بعدد أزرار من الورد الأبيض، وسعرها يتراوح بين 35 و75 ألف ليرة. وهناك من يطالب بأكاليل وصلبان من الورود. والميسورون يطلبون من الأزهار الورد الأبيض أما الأقل يسراً فيكتفون بالجربيرة والكريز. أما الأوركيدة فبات طلبه شبه نادر إلا للوزراء المتوفين وللنواب وللرؤساء وللمحظوظين. والأزهار محلية وأسعارها خاضعة للعرض والطلب وأحوال الطقس. ومن يموت في الربيع أكثر حظاً ممن يموت في الخريف. ومن سيموت قبل إقرار الضرائب "حظه بيفلق الصخر". لأن البذار من الخارج والأسمدة من الخارج وأدوية كثيرة ضرورية تستورد من الخارج.

شركات المآتم في لبنان تستورد بغالبيتها الأزهار من شركة قزي التي تتاجر بها بالمفرق والجملة.

ورود بيضاء في "الترح" والفرح

ما رأي شركة أبو شبكة" للمآتم التي تلبي طلبات كسروان وجبيل وجونيه؟

صاحب الشركة مشغول جداً. وبين يديه أكثر من خمس عشرة قطعة( سلال) لمأتمين. وأكثر ما يُطلب اليوم هي الورود البيضاء. هل نفهم من كلامه أن الأزهار الملونة مطلوبة أيضا؟ يجيب: كل عمرنا نُعدّ سلل الأزهار الملونة في المآتم، إلا إذا كان الميت شاباً أو صبية، أما اليوم فيطلبون الأزهار بيضاء عند الولادة وفي الأعراس وفي المآتم.

ماذا عن السندويشات؟

صاحب مؤسسة الراحة الأبدية لدفن الموتى يتحدث عن طبقات هنا أيضاً. الفقراء يأتون بصواني لحم بعجين وسندويشات محضرة ذاتياً، الأكثر يسراً يطلبون منا سندويشات جاهزة نقدمها لهم بسعر دولارين لكل سندويش بطول 22 سنتمتراً ومن خمسة أصناف: دجاج، روستو، حبش، تونا، وجبنة وجمبون. في حين يطلب الأغنياء سندويشات من "نورا" (6000 ليرة) أو "لاسيكال" (8000 ليرة). وسندويش الأغنياء أصغر حجماً. 11 سنتمتراً.

المسلمون لا يقدمون في التعازي الطعام بل يكتفون بالتمر والمياه والقهوة.

نريد أرقاماً أدق: كم كلفة المأتم الشعبي، البسيط،، قبل زيادة الضرائب، عند المسلمين وعند المسيحيين؟

600 دولار عند المسيحيين و400,000 ليرة عند المسلمين.

هذا طبعاً من دون احتساب كلفة رجال الدين.

وماذا بعد؟

يضحك كثيراً صاحب شركة أبو شبكة وهو يُخبر عن أحدهم أتى وسأله: شو في موديلات جديدة؟ أجابه: هناك نعش مع مكيّف وآخر فيه أدراج لوضع المكسرات "فما تتأخر".

إكرام الميّت دفنه.

أحياء؟

ستُصبحون على ضرائب جديدة...

أموات؟

نفذتم بريشكم!