مريم سيف الدين

نصف مليون زائر خلال الصيف

صور مدينة بأوجه مختلفة

7 أيلول 2019

01 : 37

نحو 500 ألف زائر يقصدون شاطئ صور خلال أشهر الصيف الثلاثة. قد يفاجئ الرقم البعض، لكن من يعرف المدينة لا تفاجئه قدرتها على جذب مئات الآلاف. فقد تمكنت صور من فرض نفسها كمقصد للبنانيين من مختلف المناطق، إذ أتاحت المدينة للمواطن التمتع بيوم سياحي كامل بكلفة منخفضة نسبياً. ويمكن لزائر مدينة صور المنغمسة في البحر القيام بنشاطات عدة، بحرية وبرية وبرمائية ربما. فلصور شواطئ مختلفة الطبيعة وفيها آثار رومانية وأحياء تراثية جميلة نجحت في الحفاظ على طابعها العمراني، على الرغم من حشر بعض الأبراج الاسمنتية وسطها. وفي المدينة أسواق تجارية قديمة وحديثة ومطاعم ومقاه مختلفة الطابع وترضي كل الأذواق بعضها أنشئ على مركب في ميناء الصيادين وبعضها في أبنية قديمة .

في ظاهرة نادرة في لبنان، يمكن لأي شخص أخذ مظلته و"عدّته"، الجلوس على الشاطئ الرملي مجاناً، ويمكنه أيضاً أن يحضر المشروبات الكحولية ليحتسيها في قلب المدينة الجنوبية. ما مكّن الشاطئ النظيف من جذب الناس إليه في أشهر الصيف الحارّة. واستعداداً لاستقبال الزوار تُنصب الأكشاك صيفاً، لتتحول إلى مطاعم ومقاه تبيع المأكولات والمشروبات، لكلّ منها رقمها واسمها وصاحبها، وتفرش أمامها الخيم البحرية الشهيرة، حتى بات يعرف هذا الشاطئ الرملي في صور بشاطئ الخيم. في السابق كانت تنتشر الأكشاك عشوائياً، لكن القيّمين على محمية صور الطبيعية سعوا إلى ضبطها وخفّضوا عددها إلى 49 كشكاً. ويصل عدد زوار الشاطئ إلى نحو 12000 زائر في بعض الأيام ، بخاصة أيام الويك ـ أند والعطل على الرغم من كونه جزءاً من محمية صور الطبيعية.

كثير من اللبنانيين باتوا زواراً دائمين لشاطئ الخيم، يقصدونه في إجازاتهم. صاروا يعرفون جيداً أصحاب الأكشاك وانتماءاتهم السياسية والفكرية ويدركون الفرق بينهم. وتنعكس هذه الإنتماءات في نوع الخدمات المقدمة ولائحة المشروبات والمأكولات. يعرف زوار الشاطئ أي كشك يبيع الكحول ويسمح بالموسيقى والرقص في داخله، وأيها يرفض صاحبه ذلك بسبب التزامه الحزبي والديني. ويروي زوار على الشاطئ أن تقسيم الأكشاك أصبح نوعاً ما تقسيماً فكرياً، فالملتزمون دينياً يفضلون الجلوس لدى من يشبههم ولا يناقض التزاماتهم. للعلمانيين أيضاً مكانهم على الشاطئ، وأكشاكهم التي تبيع الكحول وتذيع الأغاني، وقد ينظّمون فيها أنشطة أو مخيمات على الشاطئ.

لصور شاطئ آخر يسمى شاطئ الجمل، طبيعته الصخرية تجعله غير مناسب للسباحة على العكس من شاطئ الخيم، لكنه مناسب لمن يرغب بالاستراحة والجلوس على مقعد اسمنتي قبالة البحر بالقرب من الأشجار والطيور. وتجذب هذه الشواطئ الصخرية هواة صيد السمك، الذين يجلسون على الصخور ويرمون صناراتهم في البحر. وتطل على شاطئ الجمل "حارة المسيحيين" القديمة والمحافظة على طابعها العمراني. وفي مقابل مشهد الحارة التراثية المطلة على الشاطئ وميناء الصيادين، مشهد أكثر حداثة يظهر من جهة أخرى من المدينة المحاطة بالبحر. إذ تطل على كورنيش صور البحري مقاه وفنادق وأبنية أكثر حداثة. لا تتمتع هذه الفنادق بالامتيازات الممنوحة لفنادق بيروت ومقاهيها في احتلال الشاطئ ومنع الناس من الاقتراب منه، إنما تشبه أكثر المدن الأجنبية، ويفصل الطريق العام بين الشاطئ والفنادق، ويسمح لأي شخص بالوصول إلى الشاطئ والسباحة.

محمية صور الطبيعية

بحر صور وشاطئها جزء من محميتها الطبيعية، وإن غصّ بالسباحين وسُمِح الصّيد فيه. تأسّست محمية صور الطبيعية في العام 1998، لتصبح المحمية الشاطئية الوحيدة في لبنان. ويشير مدير المحمية، المهندس حسن حمزة، في مقابلة مع "نداء الوطن" إلى "ميزة المحمية كونها، وبحسب التصنيف الوطني، آخر وأجمل شاطئ رملي موجود في لبنان، ويعتبر الشاطئ الوحيد المتاح أمام الجميع مجاناً والمنظّم بشكل صديق للبيئة، إذ اعتمدت توأمة ما بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة. باعتبار أن المحميات بمفهومها ليست منطقة معزولة، وإنما يمكن الاستفادة منها مع الحفاظ على الموارد الطبيعية الموجودة فيها". وتبلغ مساحة المحمية 3,3 هكتارات، أي نحو3300 دونم من اليابسة بالإضافة إلى 12 ألف م2 مساحة المنطقة البحرية المقابلة، بذلك تكون أكبر محمية في لبنان.

لا تقتصر اهتمامات المحمية على الحفاظ على السلاحف، مع أنها الصفة العامة للمحمية، وفق حمزة. في هذا الإطار أطلقت المحمية نهار الجمعة 26 تموز أول عش سلاحف بحرية من لبنان باتجاه البحر، ضمّ نحو 93 سلحفاة. وتضم المحمية مناطق متنوعة: منطقة علمية لإجراء الدراسات، يمنع الدخول إليها لغير الباحثين، تبلغ مساحتها نحو ثلث مساحة المحمية، أي نحو ألف دونم وهي منطقة غطاء نباتي، تشكّل معبراً ومقراً للكثير من الطيور المهاجرة. وتحتوي المنطقة العلمية على 270 نوعاً من النباتات، وتشكل موائل لأنواع من اللّبونات، تكمن أهميتها في جذب السلاحف البحرية لوضع بيوضها. في المحمية أيضاً منطقة أثرية، في رأس العين، فيها برك وينابيع مياه حلوة فوّارة "أزلية"، يعود تاريخها إلى 4000 سنة ق.م، أي إلى العهد الروماني، وترتفع حوالى 14 متراً عن سطح البحر. تغذي إحدى هذه البرك 63 ضيعة بمياه الشرب، وفق حمزة، بينما تستخدم بركتان للريّ. وفي المحمية منطقة زراعية يعتاش منها نحو 150 مزارعاً، وتُمنع زراعة الأشجار المثمرة فيها، بينما يعتمد مزارعوها اعتماداً كلياً على الزراعات الموسمية صيفاً وشتاءً.

بالعودة إلى الشاطئ، يشرح مدير المحمية كيفية التوفيق بين الشاطئ كمكان سياحي وكمحمية في آن. "يخضع الشاطئ لإدارة خاصة من قبل بلدية صور بموافقة من وزارة البيئة ومحمية صور التي تنظّم وضع الأكشاك". يدرك حمزة أن زيارة السياح إلى الشاطئ قد تؤذي السلاحف لأنها مخلوقات حساسة تتأثر بالضوء والإزعاج، لكنه يعارض منع الناس من السباحة في البحر. ويقيِّم حمزة وضع شاطئ صور بالجيّد نوعاً ما، لأن الأكشاك توضع لمدة ثلاثة أشهر فقط، ما يمنح الشاطئ فرصة لترميم نفسه بنفسه. ويرى حمزة أن المنطقة البحرية في صور هي من الأنظف في لبنان حيث تقارب نسبة التلوث فيها الصفر بالمائة، وتضم نحو 37 نوعاً من الأسماك المهمة جداً لتواجد السلاحف. وتتنوع التضاريس بين مناطق رملية وأخرى صخرية، ما يشكّل عوامل جذب السمك ليضع بيضه في المنطقة. وفي المحمية حوالى 5 أعشاش لبيض السلاحف، في كل عش منها هناك ما بين 80 و 100 سلحفاة. الرقم أكبر على مستوى لبنان، "تحديداً جنوب لبنان فالسلاحف تبيض في جنوب لبنان، وهناك شاطئ مهم جداً لن نسميه ( حرصاً على عدم المس بثروته البيئية) سجّلنا فيه حوالى 30 عشّاً".

يعتبر حمزة مدينة صور نموذجاً لضبط عمليات الصّيد غير الشرعية، على الرّغم من الضغوطات. حيث تسيّر دوريات بحرية تسجّل وتقمع المخالفات وتحرّر محاضر ضبط بحق المخالفين، "يمكننا أن ندّعي أنّنا نسيرُ خطوةً كبيرةً في هذا المجال على الرّغم من الضغوطات". ويرى مدير المحمية أن نموذج صور قابل للتطبيق في مناطق أخرى ويمكن للبلديات نسخه، "ليس من الضروري إعلان محميات، يكفي أن تدار الشواطئ على مستوى لبنان كما تديرها محمية صور بالتنسيق مع البلدية والجمعيات البيئية، وأن تقمع المخالفات لتؤدي إلى حالة ما على صعيد لبنان".

الحارة المسيحية ذهب الشباب وبقي الشيب

في المدينة حارتان، حارة مسيحية وحارة مسلمة. بقيت الحارة المسلمة حارة سكنية عادية، بينما شهدت الحارة الشمالية، المعروفة باسم حارة المسيحيين، تحوّلات أخرجتها من طابعها السكني وأخذتها باتجاه طابع يكاد يكون سياحياً بالكامل. فأصبحت حارة المسيحيين مقصداً للزوّار نظراً لجمالها وترتيبها وجمال أبنيتها القديمة. تتدلى الزهور من منازلها التراثية المطلية بالألوان الزاهية لتشكل لوحة جميلة تميّز أحياءها وتشجع النزلاء للإقامة فيها، والتجول والتقاط الصّور. إذ يشكل المشهد خلفيّة رائعة تضجّ بالحياة بعيداً من مكعبات الإسمنت المتشابهة. وسط هذه الألوان، يغزو اللّون الأبيض شعر أغلب من تصادفهم من سكان هذه الحارة. يروي أحدهم أن الحارة فقدت الكثير من شبابها، إذ هجرها معظمهم، بينما حوّل الكثير من شيبها منازلهم إلى ما يشبه الفنادق الصغيرة بعد أن سكنها الفراغ. ويقول مختار الحارة الشمالية في صور انطوان خيرالله في حديث إلى "نداء الوطن" أن هذا التحوّل بدأ منذ العام 2006 بعد حرب تموز. "منذ العام 2006 أصبح طابع الحارة سياحياً. ففي حرب تمّوز لجأ الصحافيون إلى الحارة وبحثوا عن شقق للإقامة فيها خلال تلك الفترة، فبدأ الناس بتحويل منازلهم إلى فنادق. أما شباب الحارة فنزحوا إلى بيروت، ومنهم من هاجر إلى خارج لبنان بسبب قلة فرص العمل، لقد كان مجال الخروج والعمل في المجتمع المجاور ضيقاً". ووفق كلام المختار، فإن الطّابع السّياحي للحارة لم يحلّ أزمة شبابها الإقتصادية. ويروي خيرالله أن أغلب سيّاح الحارة هم من داخل لبنان، ويأتون بمعظمهم خلال عطلات نهاية الأسبوع حيث تمتلئ الغرف. "لكنها لا تؤمّن عملاً وحركة اقتصادية مستدامة لسكان الحارة، حيث يطلب كل فندق نحو ثلاثة أو أربعة موظّفين خلال الصيف ويتراجع عمله شتاءً". حتى البحر لم يعد قادراً على تشكيل مصدر رزق ثابت للعائلات. ويشير المختار الى أن أهل المدينة فضّلوا في السابق مهنة الصّيد على الوظيفة الثابتة، "لكن الحال تغيّر اليوم، لم يعد البحر مربحاً كالسّابق بسبب فوضى الصيد وغياب الرقابة، فلا مديرية للشواطئ في وزارة الداخلية، والدولة مقصرة تجاه المدينة".

وخلال التجوّل قرب حارة المسيحيين يفاجئك مبنى كتب عليه "مستشفى بشور"، بينما لا يوحي سوء حاله بأنه مستشفى. يرى خيرالله أن من المزايدة القول بأنّ مستشفى بشور عوقب بالإقفال لأنّ زوجة الطبيب الذي يملكه تجرّأت وترشحت لمقعد بلديّ ضدّ لائحة "حركة أمل" في العام 2004. ويقول خيرالله إنّ سبب إقفال المستشفى يعود إلى خلاف بين المستشفى ووزارة الصحة، ولأن المجتمع المحيط بالمستشفى فقير ولا يمكنه الاستشفاء إلا على حساب وزارة الصحة، ولأن أحزاباً لم يسمّها فرضت على المستشفى تأمين الاستشفاء مجاناً فاضطر أصحابه الى إقفاله.

أسواق... مقاه... حديقة

خلال التجوّل في مدينة صور، يتنقل السائح بسرعة بين أمكنة مختلفة. في السوق القديم المتداخل مع الأحياء السكنية في قلب الحارة، تلتصق محال بيع الثياب بمحال بيع اللحوم والأطعمة ومحال أصحاب المهن الحرفية من نجارة وتنجيد وغيرها. فتتداخل رائحة اللحم المشوي برائحة السمك لتعبق بها الملابس المعروضة بالقرب منها. الأسعار مغرية، يمكن شراء "الماركات العالمية" بأسعار بخسة. في السوق القديم أيضاً يمارس أصحاب بعض المهن الحرفية عملهم، لم يستسلموا لإرادة المصانع الكبيرة وسلطة الآلات. ومن المهن التي حافظت عليها المدينة البحرية مهنة صناعة المراكب، مهنة يذكرك بها مركب أزرق عند ميناء الصيادين مكتوب بالقرب منه "صانع المراكب الأول رحل".

مركز باسل الأسد ثقافي

إنها لمفارقة أن يحمل مركز صور الثقافي إسم باسل الأسد الوريث السياسي الذي لم يرث ومات بحادث سيارة العام 1994، يبدو وكأن المركز يفتقر إلى الدعم اللازم، على الرغم من أن عرّابته هي السيدة رنده بري، عقيلة رئيس مجلس النواب نبيه بري.

في المركز مكتبة وقاعة تدريب افتتحتهما الوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة، ومسرح يتسع لنحو 450 شخصاً، وهو الأكبر في الجنوب، بحسب مديرة المركز شاهيناز قهوجي. وتقول قهوجي لـ"نداء الوطن" إن بإمكان من يشاء استئجار المسرح لإقامة الأنشطة والحفلات والمسرحيات، لقاء بدل رمزي لتغطية تكاليف تشغيل المسرح. وتقام في المركز الثقافي أنشطة عدة ودورات مخصصة للأطفال، بالإضافة إلى معارض وأنشطة تهدف إلى دعم وتمكين المرأة. لكن أغلب النشاطات عبارة عن تواقيع كتب وأمسيات شعرية. وتشير قهوجي إلى أنها حاولت ضمن الإمكانات المتاحة إنشاء "متحف أعماق بحر صور" في إحدى قاعات المركز. وعرضت في القاعة مجموعة من القطع الأثرية والكائنات البحرية التي جمعها والدها الفنان ابراهيم قهوجي. لكن المتحف لم يلقَ الدعم اللازم بعد، وفق قهوجي، ما جعلها تتردد في نقل مجموعة أهم من القطع التي جمعها والدها خشية سرقتها أو تضررها بسبب افتقار المتحف للتجهيزات اللازمة. وتأمل مديرة المركز الثقافي أن يحظى المركز والمتحف باهتمام وزير الثقافة محمد داوود، والذي يبدي اهتماماً بمدينة صور.

صور الجميلة المشرّعة لكل اللبنانيين ستكون الأحد 15 أيلول مع انتخابات فرعية يتوقعها البعض باردة. فمن يحب البحر كثيراً لن تشغله انتخابات أقرب إلى التزكية!


MISS 3