د. ميشال الشماعي

مصير الحياة السياسيّة بين الأحزاب ومجموعات الضغط

16 نيسان 2021

02 : 00

عرف لبنان ازدهاراً في نشوء الأحزاب السياسيّة في النّصف الأوّل من القرن الماضي، وتحديداً في مرحلة الاستقلال وما بعده لما كان من أهميّة سياسيّة لهذه المرحلة في حياة اللبنانيّين. وتفاعلت هذه الأحزاب أكثر في مرحلة الحرب اللبنانيّة حيث شكّلت بمعظمها أطراف الصراع من جوانبه المختلفة. وأقفل ملفّ الحرب في تسعينات القرن المنصرم لتنصرف هذه الأحزاب عينها إلى الحياة السياسيّة حاملة معها إرثها السياسي من مرحلة ما قبل الحرب، وإرثها العسكري القتالي من مرحلة الحرب.

وانقسمت هذه الأحزاب بين يمين ويسار، متّخذة لها مرجعيّات دوليّة حيناً وإقليميّة حيناً آخر. والملفت في مسيرة الأحزاب اللبنانيّة أنّ جميعها اتّخذت مواقف من الحرب اللبنانيّة، منها مَن كان مشاركاً أساسيّاً، وبالنسبة إلى بيئته شكّل جوهر بقاء هذه البيئة في الوطن، لأنّه دافع عنها وحمى وجودها؛ ومنها مَن اكتفى بمواقف سياسيّة ولم ينخرط بالقتال. وبعد مسيرة سياسيّة بلغت العقود الثلاثة بعد الحرب اللبنانيّة، سقطت منظومة الدّولة. فثار النّاس جميعهم محمّلين هذه الأحزاب مسؤوليّة الانهيار.

ومن البديهي أنّ يتحمّل هذه المسؤوليّة الذين شاركوا في الحكم طوال هذه الفترة، وليس الذين كانوا في موقع المضطَهَدين. وذلك بحسب القاعدة القائلة من كلّ وفقاً لمشاركته لكلّ وفقاً لمسؤوليّته. تتفاوت إذاً هذه المسؤوليّة على قدر المشاركة، وبحسب نوعيّتها. فلا يمكن مثلاً تحميل المسؤوليّة قاطبة للجميع على قاعدة أنّهم موجودون في الدّولة، أو في المنظومة السياسيّة لمجرّد أنّهم شاركوا في الحكم. ولا يمكن أيضاً إسقاط تبعات أعمال بعضهم على المنظومة السياسيّة بأسرها. بل يجب وضع الاصبع على الجرح وقول الحقيقة مهما كانت صعبة.

ممّا لا شكّ فيه أنّ غالبيّة الأحزاب التي شاركت في الحرب لم تنجح في الانتقال إلى الحياة السياسيّة لأنّها حملت معها العقليّة العسكريّة، لا بل الطريقة الميليشياويّة التي بموجبها تتفلّت من الرقابة على قاعدة أنّ مفعول قوّة السلاح يبطل مفعول قوّة القانون. وتميّزت قلّة قليلة من هذه الأحزاب التي نجحت بالانتقال من الحياة الميليشياويّة العسكريّة إلى الحياة السياسيّة المدنيّة، لو أنّ بعضهم يعيب على هذه الأحزاب عدم إجرائها انتخابات لتغيير رؤسائها، غافلاً أنّ هؤلاء دفعوا أبهى سنينهم في المعتقلات أو المنافي ليحافظوا على ديمومة حزبهم، ويؤمّنوا هذا الانتقال إلى الحياة السياسيّة فتحوّلوا بذلك إلى أيقونات؛ مع العلم أنّ بعض هذه الأحزاب قد أجرى انتخابات في مستويات ما دون الرئاسة.

وبناء عليه، وبعد تراكم الفشل السياسي لمعظم هذه المنظومة، ثار النّاس وألقوا اللوم على الأحزاب مجتمعة، ورفضوا الحياة الحزبيّة برمّتها. وهنا الخطأ الجوهري الذي نجحت بعض جماعات المصالح أو جماعات الضغط التي تشكّل المجتمع المدني في اقتياد النّاس إليه. بينما يقتضي الحديث عن دور الأحزاب السياسية في السياسة العامة والتمييز بينها وبين جماعات المصالح أو جماعات الضغط والمجتمع المدني ودورها في السياسة العامة.

فالأحزاب التي فيها تنظيم وتحمل برامج ومشاريع هي التي يجب أن تشكّل دوراً أساسيّاً في تشكيل القوى داخل الدّولة، وحتّى المنظّمات الاقليميّة، والدوليّة كجامعة الدّول العربيّة، والأمم المتّحدة، والاتّحاد الأوروبي. وقد رأى المفكّر ديفيد هيوم في كتابه "محاولة حول الأحزاب" أنَّ البرنامج يؤدي دوراً أساسياً في المرحلة البدائية، بحيث يعمل على تكتيل أفراد متفرقين، وفي ما بعد يأتي التنظيم في المرتبة الأولى، بعد أن تصبح الأفكار والمشاريع ثانوية بكل معنى الكلمة. إلا أنَّ هذه الملاحظة لا تنطبق على بعض الأحزاب السياسية الموجودة في لبنان اليوم، إذ اتخذت العقيدة عند بعضها طابعاً دينياً، مما يعطي هذا الأحزاب سيطرة مطلقة على حياة المنتسبين إليها حيث دفعتهم للإستشهاد في سبيل الدّين. وبعضهم استشهدوا فداء للزعيم والعقيدة. ومنهم مَن حمل القضيّة اللبنانيّة في صلب عقيدته وكان استشهاده فداء للوطن.

من هذا المنطلق، تبقى مسألة الانتخابات هي المعيار الأوّل لتصنيف البلدان على أنّها ديموقراطيّة. والأحزاب السياسيّة هي التي تستطيع ببرامجها وقواعدها وتنظيمها الصلب أن تشارك في العمليّة الانتخابيّة تحت سقف الحريّة، والقانون، وحقوق الانسان، حيث تكوّن مع المرشّحين ما يعرف بالفاعلين المتخصّصين في تنفيذ فعاليّات التمثيل. إلا أن للأحزاب السياسية أدواراً حيوية أخرى كثيرة في المجتمع الديموقراطي حيث تلعب دور الوسيط بين المجتمع المدني ومن يضطلعون بمسؤولية صنع القرارات وتنفيذها. ومن خلال ذلك، تتمكن الأحزاب السياسية من تمثيل تطلعات أعضائها ومناصريها في البرلمان والحكومة.

خلاصة القول، لا تستقيم الحياة السياسيّة في أيّ بلد سوى باستقامة الحياة الحزبيّة فيه. وإذا فشل بعض الأحزاب بالحياة السياسيّة، لا يعني ذلك أن نلغي الحياة الحزبيّة بالمطلق. علّة العلل في حياتنا السياسيّة تكمن في غياب الرقابة الفعليّة والمحاسبة الحقيقيّة. والحزب الذي ينجح في تحقيق ذلك يمكنه خوض التجربة السياسيّة بشفافيّة، ويكون وجوده معياراً حقيقيّاً للديموقراطيّة الحقيقيّة. فالخطر الذي يكمن في عدم تطوير أحزابنا السياسيّة سيكون باللجوء إلى مجموعات الضغط وإلغاء هذه الأحزاب ما سيؤدّي حتماً إلى إلغاء الحياة السياسيّة بالمطلق، لنصبح تحت رحمة مجموعات تجمعها المصالح المشتركة، ولنا في حقبة الاحتلال السوري نماذج كثيرة؛ ومَن يضمن عدم تحوّلها في المستقبل إلى نيو- إقطاع سياسي ليفنتيني مصلحي ؟


MISS 3