عيسى مخلوف

وقفة من باريس

إطفائيّون يُشعلون الحرائق

17 نيسان 2021

02 : 00

في مقال عنوانه "صناعة الجهل" نُشرَ على هذه الصفحة الشهر الماضي، طرحنا التساؤلات المتداولة حول إيجابيّات الجيل الخامس للاتصالات وسلبيّاته، لا سيّما انعكاساته على الصحّة، وأشرنا أيضاً إلى دَور شركات التبغ العملاقة في استعمال العلم ضدّ العلم من خلال تأسيس جمعيّات وتمويل أبحاث علميّة هدفها الظاهر البحث عن طبيعة العلاقة بين التبغ وسرطان الرئة، لكن الهدف الحقيقي منها هو تقديم نتائج خادعة والتشكيك في مخاطر التبغ لكسب الوقت وتحقيق المزيد من الربح المادّي. هذا النهج المتّبع منذ خمسينات القرن الماضي يُوظّف من أجله جيش من المتواطئين، ومن بينهم أطبّاء وأكاديميّون ومتخصّصون، لادّعاء المصداقيّة والعمل على دحض ما تتوصّل إليه الأبحاث العلميّة الموضوعيّة في هذا الصدد. ولقد تمكّن "اللوبي" العالمي لشركات صناعة السجائر، بفعل إمكاناته وحِيَله، من اختراق مؤسّسات حكوميّة وأصحاب القرار السياسي ووسائل الإعلام والثقافة والفنّ وبعض مراكز البحث العلمي.

في عددها الصادر يوم أمس، نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسيّة تحقيقاً (أعلنت عنه على صفحتها الأولى، وخصّصت له ثلاث صفحات كاملة) حول "الحرب السرّيّة" التي تشنّها شركة التبغ الأكبر في العالم، فيليب موريس، ضدّ السياسات المناهضة للتبغ. وكشف التحقيق كيف أنّ هذه الشركة التي أنشأت في العام 2017 مؤسّسة عنوانها "من أجل عالم خال من التدخين"، كان هدفها الفعلي تشجيع البدائل المُربحة للسجائر (السجائر الإلكترونيّة، والتبغ الساخن وما إلى ذلك). ولاحظت الصحيفة الفرنسيّة، من خلال مراجعتها بعض الوثائق السرّية، أنّ هذه المؤسّسة التي تفتقر إلى الشفافية تشكّل أداة ضغط للالتفاف على اتفاقية "منظّمة الصحّة العالميّة" حول مكافحة التدخين، بل تسعى إلى جعل المنظمة تنحني أمام استراتيجيتها من أجل الترويج لمنتجاتها البديلة للسجائر. غير أنّ منظمة الصحّة تقف ضدّ هذه البدائل وتحذّر من استعمالها لأنها لا تضمن خلوّها من المخاطر ولأنّ انعكاساتها على الصحّة ما زالت قيد الدرس وغير واضحة تماماً بعد.

لقد تأكّد الآن أنّ شركة فيليب موريس، كبقيّة شركات التبغ، تقتل أكثر من نصف الزبائن الذين يشترون منتجاتها، وأنّ الإدمان على التدخين هو سبب الموت الأوّل الذي يمكن تفاديه. في ظلّ هذا الواقع، تدور معركة عنيفة اليوم بين مَن تعنيهم الصحّة العامّة من جهة، ومُصَنّعي التبغ من جهة ثانية. وإذا كانت مؤسّسة فيليب موريس قد تمكّنت بقدراتها الفائقة وإمكاناتها الماليّة الهائلة أن تشتري بعض الضمائر وتشقّ صفوف البحّاثة وتزرع الشكّ في النفوس، فهي لم تنتصر حتّى الآن في حربها ضدّ "منظّمة الصحّة العالميّة" التي تعتبر أنّ وباء التبغ أحد أكبر الأخطار الصحيّة التي شهدها العالم على مرّ التاريخ، وهو يودي سنوياً بحياة أكثر من ثمانية ملايين شخص.

هناك إذاً مَن لا يزال يذكّي نار الإدمان ويقضي على مستقبل ملايين الشباب والشابّات في مختلف أنحاء العالم، فينحرهم فيما يدّعي أنه حريص على صحّتهم وحياتهم. والأكثر خطورة في هذه المعركة هم أولئك الأطبّاء- وبعضهم يتمتّع بشهرة عالميّة - الذين يقبلون بالتعاون مع شركات التبغ للتغطية على جرائمها، كما الحال مع دافيد خيّاط الذي أشار إليه التحقيق، وهو أحد أشهر أطبّاء السرطان وأكثرهم حضوراً إعلامياً، فضلاً عن أنه مؤسّس "المعهد الوطني للسرطان"، وقد عيّنته شركة فيليب موريس مستشاراً لها في فرنسا. في كتابه الجديد الصادر مطلع هذا العام في باريس تحت عنوان "توقَّف عن حرمان نفسك!"، توجّه خيّاط إلى الذين يتعذّر عليهم التخلّص من التدخين ونصحهم أن يلجأوا إلى السيجارة الإلكترونية أو السجائر التي يُسَخَّن فيها التبغ لأنها، بحسب رأيه، "أقلّ خطراً من السيجارة العاديّة، وطريقة بلوغ النيكوتين فيها تخفّف من سمومه". وهذا هو أصلاً التوجّه العامّ للشركة المصنّعة للتبغ الذي يقتل قرابة 75 ألف شخص سنوياً في فرنسا وحدها. صحيح أنّ السيجارة البديلة تحتوي على نسبة أقلّ من النيكوتين، لكنّ ضررها يبقى قائماً. إنّها محاولة التفاف على الحرب التي تُشَنّ أينما كــــــان على مضارّ التدخين.

هكذا يصبح الإطفائيّ مُشعل حرائق، تماماً كحكّام لبنان، أمراء الحرب الأهليّة، الذين يرتبط وجودهم بمستنقعات السياسة القائمة على الفساد والنهب والدسائس والتبعيّة والمؤامرات والاغتيالات وشحن الغرائز الطائفيّة، وهم يخوضون الآن معركة شرسة من أجل البقاء ولو على حساب وجود البلد وأهله.


MISS 3