نجم الهاشم

الإحتكام إلى المحاكم: قضاء أم سياسة؟

قضية قبرشمون ليست المثل الأوّل والوحيد

12 أيلول 2019

02 : 25

"العدلية"

أعاد السجال حول جريمة البساتين-قبرشمون فتح ملف المحاكم العادية والإستثنائية في لبنان وملف علاقة السلطة السياسية بالقضاء. هل يكون القضاء مستقلاً أم منفّذاً لقرارات السلطة ورغباتها؟ هل هناك جهة واحدة في السلطة لها مونة على القضاء أم أن هناك توزع سلطات بحسب توزع الأجهزة القضائية؟ لماذا تمسك النائب طلال أرسلان مثلاً بالمجلس العدلي؟ ولماذا رفض الحزب «التقدمي الإشتراكي» هذا الأمر؟ لماذا كانت هناك اعتراضات إشتراكية على ما سمي تدخلات في عمل القضاء العسكري؟ هل هناك تحديد واضح حول مسألة إحالة الجرائم على القضاء أم أن الأمور ملتبسة وتبقى تحت تأثير القرارات السياسية؟ الأمثلة على تدخل السلطة السياسية بالقضاء كثيرة لأن ثمة قضايا متشابهة ولم تكن فيها المحاكمات متماثلة. فهل سيكتمل التحقيق في قضية قبرشمون؟ وهل ستكون نتائجه مهنية أم خاضعة للتسويات السياسية؟ وهل سيكون من الممكن أن تحصل المحاكمة أمام المحكمة العسكرية أم سيعود السجال مجدداً حول إحالة القضية إلى المجلس العدلي؟

أعطى القانون تعريفاً للجرائم بحسب العقوبة المفروضة لكل منها. فكانت المخالفات والجنح والجنايات والجرائم الارهابية وتلك التي تمس الدستور والدولة مثل الخيانة والتعامل مع العدو وتأليف العصابات المسلحة بقصد النيل من هيبة الدولة، ووزع القانون الاختصاصات المكانية والنوعية على المحاكم حسب نوع الجريمة ومكان وقوعها او مكان القبض على مرتكبها او محل اقامته .

وكانت الجرائم تلاحَق ويلقى المرتكبون العقاب الملائم بموجب الاحكام الصادرة عن المحاكم، وكان القضاة يمارسون سلطتهم متسلحين بالقانون وبالسلطة الاستنسابية التي منحهم اياها القانون.


المحاكم الإستثنائية

ازاء ذلك رأت السلطة ان العقوبة تتجه أكثر نحو عدم الفعالية اي انها لم تعد رادعة فكانت فكرة انشاء المحاكم الخاصة.

أُنشئت المحكمة العسكرية وصدر قانون القضاء العسكري والعقوبات العسكرية لمتابعة جرائم العسكريين وأُعطيت لها صلاحية ملاحقة ومحاكمة جرائم الخيانة والتجسس والصِلات غير المشروعة بالعدو والتي تمس مصلحة الجيش والامن الداخلي والامن العام والجرائم المنصوص عنها في القانون 11/1/1958 وغيرها من الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات والتي كانت تلاحقها المحاكم العادية.

وبعد إصدار القوانين الاستثنائية، عمدت السلطة الى تفعيل دور المحاكم الاستثنائية ومنها المجلس العدلي الذي استناداً الى المادة 355 أصول محاكمات جزائية، تُحال اليه الدعاوى بناءً على مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء وينظر في الجرائم الواقعة على أمن الدولة والخيانة والتجسس والصِلات غير المشروعة بالعدو والجرائم الماسة بالقانون الدولي والتي تنال من هيبة الدولة والشعور القومي، وتلك الواقعة على الدستور والفتنة والارهاب وكذلك جرائم التعدي على الحقوق والواجبات المدنية وجمعيات الاشرار، وايضاً تشمل صلاحيته الجرائم المنصوص عنها في قانون 11/1/1958 وكل هذه الجرائم تدخل ضمن اختصاص المحاكم العسكرية.


حادثة قبرشمون إلى القضاء العسكري


يتألف المجلس العدلي من الرئيس الاول لمحكمة التمييز رئيساً ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاء، يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الاعلى، يتولى النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من المحامين العامين لدى النيابة العامة التمييزية مهام تحريك الدعوى واستعمالها، ويتولى التحقيق قاضٍ يعينه وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الاعلى، وهو يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق من دون طلب من النيابة العامة، قراراته بهذا الخصوص لا تقبل اي طريق من طرق المراجعة وهذا الأمر كان السبب الرئيسي من توجس الحزب "التقدمي الإشتراكي" من مسألة إحالة قضية قبرشمون إلى المجلس العدلي لأنه كان يخشى تعيين محقق عدلي بخلفية سياسية انتقامية بحيث يصدر قراره الإتهامي الذي يمكن أن يأخذ به المجلس العدلي خلال المحاكمة من دون تعديلات أساسية.

أمام المحاكم العادية هناك طرق للمراجعة في المحاكمات التي تحصل على ثلاثة مستويات: البداية والإستئناف والتمييز. اما اذا أُحيل الملف أمام المحكمة العسكرية، فهناك اجراءات دفاع أقل. فالمدعي مثلاً لا يحضر ولا يتمثل في المحاكمة الا بصفة شاهد، حتى انه يتقدم بالشكوى بصفة "شاكي" ويتابع مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدعوى ويحركها حتى انتهاء التحقيق الاولي أمام الضابطة العدلية التي يكلفها بذلك، وبعد انتهاء التحقيق يحيل الملف الى قاضي التحقيق العسكري الذي يصدر قرار الاحالة، وهنا يُحرم المدعى عليه أو المتهم من فرصة المثول أمام الهيئة الاتهامية اي الاستفادة من درجة ثانية من درجات التحقيق وإن كان له الحق في التقدم بمراجعة بشأن هذا القرار أمام محكمة التمييز، الا ان ذلك لا يبرر حرمانه من فرصة تغيير مسار الدعوى أمام الهيئة الاتهامية.

من سجلات المحاكم

ومن مراجعة سجلات المحاكم، يلاحظ ان الجرم نفسه أُحيل امام محكمة الجنايات العادية العدلية، وفي غير وقت أو زمن أُحيل امام المحكمة العسكرية، وفي زمان مغاير وعصر آخر أُحيل أمام المجلس العدلي. وإن كان القضاة وفي كل الازمنة والعصور يعطيهم القانون حق ممارسة السلطة الاستنسابية في تقدير ظروف الجريمة والمتهمين وتكوين قناعة الحكم، فهم يتحركون ويحاكمون المتهمين في الجرائم نفسها بناء للسلطة الاستنسابية في احالة الملفات الى المرجع الذي تراه، لأنه بإمكان وزير العدل وبناءً لمعلومات سريعة وفور وقوع الجريمة وعلمه بها من خلال الاجهزة الامنية والقضائية، ان يقترح على السلطة السياسية وعلى مجلس الوزراء احالة الملف الى المجلس العدلي أو أن القضية تسلك طبيعياً في القنوات المتعارف عليها وتصل الى محكمة الجنايات أو غيرها من المحاكم العدلية العادية، أو اذا كانت من صلاحية المحكمة العسكرية تُحال اليها انما يمكن للمدعى عليه المراجعة أمام محكمة التمييز الجزائية للطعن بقرارات صادرة عن المحكمة العسكرية لجهة الصلاحية او سواها، على عكس ما هي الحال أمام المجلس العدلي .

نرى مثلاً ان جريمة قتل مختار عرسال أُحيلت سنة 1967 أمام المجلس العدلي، وبعد المحاكمة صدر القرار بتبرئة المتهمين.

كما أُحيلت قضية مقتل المرحوم نسيم كرم في طرابلس الى المجلس العدلي بعد ان أقدم بولس الدويهي وأنطوان الدويهي وفوزي الدويهي على إطلاق النار عليه وأصابوه بأربع رصاصات قاتلة بإعتبار هذه الجريمة تشكل خطراً واعتداءً على أمن الدولة الداخلي .

وايضاً أُحيلت على المجلس العدلي سنة 1961 قضية إقدام ناصر الدين علي سرايا وقاسم سرايا وسالم العنداري ورفاقهم على إضرام النار في منازل عيسى شموط ويوسف الحلبي وصالح صوان وغيرهم في بلدة كفرقوق والحاق الاضرار المادية فيها، باعتبارها تشكل جناية المادة 587 عقوبات وإصدر المجلس سنة 1968 قراراً بتجريمهم مدة سبع سنوات سنداً لها وخفض العقوبة الى سنة واحدة .

وايضاً أُحيل على المجلس العدلي سنة 1968 كل من أغوب سيمونيان وملكون طاوقجيان وفاسكين برسخيان ورفاقهم لاقدامهم على تأليف عصابة تجوب الطرقات بقصد سلب الناس والتعدي عليهم باعتبار فعلهم يؤلف جناية المادة 336 عقوبات وأصدر المجلس سنة 1968 قراره بتبرئة البعض وإدانة الآخرين .

ايضاً أُحيلت أمام المجلس العدلي سنة 1968 جريمة محاولة إغتيال الرئيس كميل شمعون والجرائم المتفرعة عنها وأُحيل المتهمون محمد نبيل العكاري وعلي الزعيبي واسماعيل قاسم وحوكموا امام المجلس العدلي الذي أصدر قراره بالتجريم سنة 1969 .

كذلك أُحيلت قضية مقتل الاخوين انطونيوس في بعبدا الى المجلس العدلي بناء على المرسوم 3007/1992 وقد صدر القرار بتبرئة البعض وإدانة البعض الآخر.

وأحيلت ايضاً على المجلس العدلي قضية تفجير البلمند والمتهمون عبد كحيل وبلال كسن ورفاقهم لأنهم على طريق القلمون أقدموا على تأليف عصابة للاعتداء على أمن الدولة ونصبوا كميناً لرؤساء روحيين يشتركون في مؤتمر روحي بغية قتلهم، إلا انهم لم ينجحوا بذلك فقد انفجرت العبوة بمن كان ينصبها قبل وصول الموكب .


المحكمة العسكرية


وكذلك أُحيلت قضية مقتل الشيخ نزار الحلبي سنة 1995. وبعد ان كانت قيد النظر أمام المحكمة العسكرية منذ العام 1991 أُحيلت قضية محاولة اغتيال الوزير ميشال المر الى المجلس العدلي سنة 1994 بناء على المادة 8 من قانون العفو العام الصادر بتاريخ 1991 حيث تابعها المجلس وأصدر قراره فيها سنة 1997 وقضى بادانة البعض وتبرئة الآخرين .

ومن مراجعة السجلات، يلاحظ ان جرائم قتل عديدة وهامة وذات وقع أليم وكبير على المجتمع، بقيت قيد النظر أمام المحاكم العدلية العادية ولم تتم إحالتها الى إية محكمة استثنائية وقد صدرت الاحكام بشأنها.

كما ان جرائم مماثلة لتلك التي أحيلت أمام المجلس العدلي أحيلت أمام المحكمة العسكرية، ومنها مثلاً قضية قتل العسكريين في الضنية وقضية الشيخ احمد الأسير المتهم بقتل العسكريين في صيدا وعبرا وايضاً قضية الوزير ميشال سماحة على رغم خطورتها اذ انه اتهم بنقل الاسلحة والمتفجرات من سوريا الى لبنان بسيارته بالتعاون مع المخابرات السورية بقصد التفجير والارهاب والاغتيالات .

كذلك حوكم أمام المحكمة العسكرية أحمد الحلاق المتهم بتفجير مركز "حزب الله" في محلة صفير ومحاولة قتل القيادي في الحزب الحاج عماد مغنية بواسطة التفجير عندما فجر عبوة ناسفة في المركز وقد أصدرت المحكمة العسكرية حكماً بإعدامه ونُفذ الحكم رمياً بالرصاص.

ومن المفارقات أن ملف اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل أحيل الى المجلس العدلي في حين أُحيل ملف اغتيال مايا بشير الجميل بسيارة مفخخة الى المحكمة العسكرية.

كما أن ملف الاعتداء على أمن الدولة الداخلي من حكومة العماد ميشال عون ورفاقه أحيل الى المجلس العدلي للملاحقة والمحاكمة ثم صدر مرسوم عفو خاص عنهم ومُنحوا اللجوء السياسي الى فرنسا وأُقفل الملف .

ملفات وجرائم ومتهمون كلها قضايا كانت تلقى الحل الملائم والمناسب عندما كانت السلطة الاستنسابية تتيح للقاضي الحرية للحكم بما يلائم قناعته. ولكن في قضايا كثيرة اصبح الملف يرد الى القضاء بناء لسلطة استنسابية من السلطة السياسية التي لها ان تختار الملف وتحيله الى المحكمة وفي ذلك مخالفة للدستور الذي نصت المادة 20 منه على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وان القضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم وان الاحكام تصدر وتنفذ باسم الشعب اللبناني.

والنيابة العامة ترتبط تسلسلاً بوزير العدل الذي له الحق باعطاء تعليمات خطية للنيابة التي عليها التقيد بها وقضاة النيابة يخضعون لارادة ومراقبة رؤسائهم ولوزير العدل، انما لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة. فوزير العدل الذي يعطي التعليمات عبر النيابة العامة التمييزية، لا يتولى الادعاء والملاحقة، بل ان النيابة العامة تفعل ذلك، وهي لها الحق بعدم التقيد بالتعليمات شرط ان يكون ذلك بقرار معلل ولأسباب معللة وإن كان التنظيم القضائي قد ألغى هذه الصلاحية، فالنيابة العامة لها ان تمارس صلاحيتها رغم التعليمات الخطية الموجهة لها بالادعاء وتحريك الدعوى في أمر وجريمة ما، لها الحق ان تقرر حفظ الدعوى وعدم تحريكها اذا لم تجد الادلة الكافية للادعاء.

هذا هو القانون الوضعي، انما هل يطبق اليوم؟

بعض ما يجري يظهر أن السلطة لا تكتفي باعطاء التوجيهات والتعليمات، بل تُحرج القضاة والسلطة القضائية، خصوصاً إذا كانت التعيينات والتشكيلات القضائية تخضع للتدخلات السياسية والوزارات الاساسية المؤثرة في عمل القضاء أو المشرفة عليه، هي من نصيب السلطة التي يكون بمقدورها اختيار جرائم معينة وأشخاص محددين وتعيين المحكمة الصالحة لمحاكمتهم، وهذه هي سلطة السلطة الاستنسابية التي تلغي أو تؤثر على سلطة القاضي الاستنسابية وبين السلطتين تبقى القضية قضية حظ أو سوء طالع وتصبح المطالبة بالغاء المحاكم والمجالس الاستثنائية أمراً واجباً في سبيل بناء دولة الحق والعدالة وحتى يصبح الجميع سواسية أمام القانون وتسود العدالة وتكون الأحكام حقاً صادرة باسم الشعب اللبناني.


MISS 3