بايزيغ كالايجيان

قضيتنا نضال في سبيل العدالة

24 نيسان 2021

02 : 00

الأم العجوز تعزف "الساز" باضطراب وقد استجمعت كل قواها وتظهر الأزمة جليةً على محيَّاها.

العجوز تعلم علمَ اليقين أن أيام حياتها معدودة. تعلم أن ليس في مجموعة أترابها من يستحق أن يخلفها في العزف. ويشاركها المستمعون -حتى صبايا الجماعة الحوامل- هذا الهاجس.

إذاً، أملها معقود على المواليد. يجب أن يسمعوا معزوفة "المعلِّمة" في رحم أمهاتهم. يجب أن يسمعوا ويتأثروا بالموسيقى القومية. أن يسمعوا ويخلفوا العازفة العجوز.

إنَّ تواصلَنا مع المواليد بصورة سليمة هو عملية نَـقـْل. عملية النقل مسؤولية يجب أن تستمر بانطلاقة جديدة وبوعي تام بعد الولادة، وعلى كل فرد أرمني أن يعي هذه المسؤولية جيداً.

إن مسؤوليتنا جسيمة إنْ كنا نرغب بجيل سليم صالح. إنها مسؤولية كبرى ومميزة، لأن قَدَر مستقبله مرتبط بنوعية النقل.

إن نقل هذا الإرث لفلذات أكبادنا سيهيِّئهم للحياة وللعالم الخارجي أيضاً. يتعين عليه أن يتقدم- في هذا العالم المتغير دائماً- بشخصيتهم الأرمنية المهذبة. عليهم أن يكونوا مهيَّئين لتقبُّل ذلك العالم في المكان المميز للأرمن وأرمينيا. هنا، أمام أنظارنا، يجب أن يحضر تاريخنا وماضينا وتجاربنا الغنية، ويصار إلى تفسيرها بكل تفاصيلها. على هذا التاريخ- كعامل مؤثر نفيس- أن يكوِّن ويـبـني شخصية فلذة كبدنا. إن تجارب آبائـنا وأجدادنا- من دون مبالغة- سيسلط النور على تفهُم الحقيقة العالمية بشكل صحيح.

إن ماضينا -غير المقيَّم بكامله- ليس سلسلة من الحوادث التي أصابها مرور الزمن. إن تاريخنا كنز يؤدي إلى استنتاجات إنسانية بنَّاءة وغنية بالأمثولات.

وفي هذه الأيام - في الذكرى الـ/106/ للمجازر المرتكبة بحق الأمة الأرمنية- سنورد مثلاً واحداً، سنورد مثل المحامي البولوني "رافائيل ليمكين" الذي استعمل عبارة "الإبادة الجماعية GENOCIDE". لقد أورد الجرائم التي ارتكبَت أبعد من جرائم الأعمال الحربية. جرائم ارتُكِبَتْ تجاه شعب مسالم، جرائم بسبق تصميم وإصرار، جرائم ارتُكِبَت من قِبَل الدول ضد مجموعات قومية وأقليات.

إنّ بقاء المجازر المنفذة من قِبَل "الاتحاد والترقي" ضد الأرمن من دون عقاب، دفع "رافائيل ليمكين" الى استنباط كلمة "الإبادة الجماعية GENOCIDE" للدلالة ولتحديــــد مدى المجازر.

لقد انعقدت محكمة "نورنبرغ" سنة 1945 على أساس هذه التسمية، لمعاقبة مرتكبي المجازر اليهودية. وقد ورد الكلام -في سياق المحاكمة- عن المجازر المرتكبة ضد الأرمن والتي ظلت بدون عقاب. لقد حوكم الفاشيون الذين كانوا مسؤولين رئيسيين عن إبادة اليهود والغجر والسلافونيين. وقد أُدْخِلَ مفهوم "الجريمة ضد السلام والإنسانية" ضمن مفهوم "مجرم الحرب". كثيرة كانت أنواع تلك "الجرائم": إبادة جماعية- إبادة ثقافية- إبادة الكنائس- قتل العقيدة- ويطول السرد إلى الوصول إلى سياسة الإبادة.

إنّ من بين دراسة المجازر المرتكبة خلال التاريخ ثمَّة واحدة فقط تتميز بصفة علمية وعقائدية: "المجازر ضد الأرمن ARMENOCIDE".

لأول مرة في تاريخ البشرية، تقوم حكومة - في وقت قصير جداً وبمؤازرة مؤسسـات سياسية وقضائية وعسكرية ودينية- بتنظيم إبادة شعب مسالم عاش زهاء ثلاثة آلاف سنة في أرض أجداده.


وهكذا تم تنفيذ أول إبادة جماعية في القرن العشرين. لأول مرة في التاريخ تقوم أمة -في سبيل عقيدة قومية- بتبرير إبادة أمةٍ أخرى. سنة 1915 كانت الحكومة التركية تريد الاستيلاء على أرمينيا بدون شعب أرمني، لذلك اختارت الحل الأنسب: الإبادة الجماعية. بالقضاء على الأمة الأرمنية تكون قد قضت على ما كان يسمَّى "المسألة الأرمنية". وتجدر الإشارة إلى مصير الدول التي ارتكبت "جرائم الحرب". فالزعماء النازيون المسؤولون الرئيسيون والذين كانوا على قيد الحياة، حوكموا من قِبَل محكمة "نورنبرغ".

أما في ما يتعلق بتركيا، التي لا تقبل بوجود المجازر، بل تتغطى بستار الإنكار وتعتبر نفسها مستحقة للدخول إلى أوروبا. إن تركيا مستمرة في اتباع سياسة الإنكار البشعة، لأنه لم يتم اتهامها وقتئذ بتلك الجرائم، على الرغم من وجود معاهدة "عدم انقضاء مهلة جرائم الحرب". إن حياة تركيا هي طوفان للإبادات والمجازر.

انتظرت الأمة الأرمنية قرناً من الزمن من أجل الاعتراف بالمجازر، ولكن اليوم، وبعد مرور /106/ سنوات على ارتكاب جرائم المجزرة تقوم تركيا بحصار أرمينيا ويستذكر الرئيس اردوغان أحد أبرز المجرمين "أنور باشا" ويعلن أن الأتراك جاؤوا إلى القوقاز من أجل "تحقيق حلم أجدادهم".

المجازر التي بدأت بتاريخ 24 نيسان لم تنته بتاريخ 25 نيسان. ومن أجل فهم أسباب ارتكاب المجازر برمَّتِها، يتوجب البدء بالدراسـة منذ عهد "عبد الحميد" وصـولاً إلى "آرتـسـاخ" و"ســـيـونـيـك" و"ناخجافان".

أجيال متعاقبة ناضلت من أجل إيقاظ ضمير الإنسانية وتوثيق المجازر المرتكبة. لدينا تجارب سياسية هائلة وأكوام من البراهين والمطبوعات الأكاديمية للبرهان على عدالة وأحقية قضيتنا. إلا أن اردوغان يهز إصبعه ويعلن للعالم: "فليقدِّم الأرمن برهاناً واحداً يثبت ارتكاب أسلافنا للمجازر".

إنّ المرتكز المحوري والاستراتيجي للسياسة الداخلية والخارجية هو "الإنكار". إنّ إنكار المجازر المرتكبة ضد الأرمن في أرمينيا الغربية، وتدمير الكنائس والاستيلاء على الثروة التاريخية والثقافية ما زال متَّبَعاً حتى أيامنا هذه ويقوم المجرمون وأولادهم وأحفادهم وأبناء أحفادهم بنكران ذلك وليس مستبعداً أن يتم إنكار ذلك غداً، لأن جينات الإنكار تعمل بنشاط ضمن كافة طبقات المجتمــع من دون استثناء.

ختاماً، إن نداءنا إلى الإنسانية جمعاء، ليس استجداء الرأفة والعدالة من الإنسانية. إن درب الجلجلة الذي سار فيه آباؤنا هو لامبالاة الإنسانية تجاه الإنسان. اللامبالاة تجاه الجريمة المرتكبة. واللامبالاة هذه هي إنكار الإنسان من قِبَل الإنسان نفسه.

لقد تمَّ تسجيل أكثر من مائة مليون حالة وفاة خلال القرن العشرين. حدثت -ومازالت تحدث- أهوال في كل مكان تقريباً على وجه الكرة الأرضية، وسُجـِّلَت مجازر على حساب القرن العشريــــــــن.

إن مسؤوليتنا -وكذلك مسؤولية الأجيال القادمة- هي المناداة والشرح والترسيخ في أذهان وأرواح الأجيال الصاعدة أن مصير الإنسانية مرتبط بالاحترام نحو موت الطفل الأرمني في الطريق من "سـيـواز" إلى "ملاطية" أو الأم التي قضت جوعاً وعطشاً في صحراء دير الزور، وبالتقييم وبالتعويض العادل.

إننا، والأجيال التي ستأتي بعدنا، سنصرخ بهذه الوقائع في وجه اللامبالاة. سنذَكِّـر الإنسانية أن ملاحقتنا لقضيتنا ليس لهــا علاقة بالثأر.

إن قضيتنا هي تحويل الفرد إلى "إنسان"، هي قضية ملاحقة العدالة وانتصارها. إن نضالنا هو النضال من أجل الحقيقة.

بهذه الأحاسيس والأفكار نودُّ أن نستذكر الذكرى الـ/106/ للمجازر المرتكبة ضد الأمة الأرمنية، ونجدِّد العهد المقدس للبقاء أمناء على إرث أسلافنا وإيمان شهدائنا الأبرار، ولإبقاء مشعل الروح الأرمنية أمام العالم والتاريخ، والحفاظ على نقاء وصفاء أرواحنا وصقلها بالقيم الثقافية والروحية الأرمنية.

بهذا الإيمان فقط، بهذا الفخر فقط سنتمكن مـــــــن الاستمــــــــرار في مسيرة نضالنا.


MISS 3