شربل شربل

عمر فاخوري و"الحقيقة اللبنانيّة"

24 نيسان 2021

02 : 00

في الرابع والعشرين من نيسان، من العام 1946، أي منذ خمس وسبعين سنةً، أسلم عمر فاخوري الروح، عن خمسين ربيعاً، ملأها نشاطاً وحيويّةً، وتنويراً، وغزارة إنتاج.

مشاغباً بدا، منذ نعومة أظفاره. وهل يُقدِم على طبع دفتره الصغير "كيف ينهض العرب"، أيّام السلطنة العثمانيّة التي كانت تعمل على تتريك رعايا السلطان، إلّا مشاغبٌ متهوّر، ما كان لينجوَ من براثن الوالي العثمانيّ لولا صغرُ سنّه، وقدرة بعض الوسطاء على إقناع الوالي، بطريقة ما(!) بأنّ الكتاب لم يوزّع، ولولا إقدام والده على إتلاف النسخ المطبوعة؟ وفي ذلك يقول "أراد الأتراك إعدامي، فافتداني المرحوم أبو عمر بأن أعدم الكتاب".

بدأ الحياة العمليّة باكراً فدعي إلى دمشق، أيّام حكومة فيصل، حيث شارك في تحرير صحيفة" العاصمة".

ولتحقيق حلمه في أن يصبح محامياً، توجّه إلى باريس ليعود، بعد أربع سنوات، حاملاً شهادة الحقوق، ناهلاً ثقافة إنسانيّة واسعة الأمداء، عميقة الجذور، عصريّة، تقدّميّة، منفتحة على أحدث تيّارات الفكر والسياسة.

لقد ترسّخت في نفسه مبادئ الحرّيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والحقّ في أجلى صوره، فعبّر عنها في نضال سياسيّ عبر حزب الاستقلال، والجمعيّة العربيّة الفتاة، وفي نضاله لمكافحة النازيّة والفاشستيّة، وجاهر بها في ما خطّه قلـــــمه من أدب سياسيّ.

إنّه الأديب الملتزم الذي عرف كيف يعبّر عمّا يؤمن به، مع المحافظة على رونق الأدب وجماليّته. وهل أبلغ من شهادة مارون عبّود الذي قال: قالوا ما دخلت السياسة شيئًا إلّا أفسدته. أمّا أنا فأقول: حاشا عمر! قد وطّدت كتبه إيماني بأنّ الأديب الأصيل لا يتخلّى عن خاصّيّاته حتّى في قاع جهنّم.

هو لبنانيّ حتّى العظم، وعروبيّ حتّى العظم؛ وقد أراد لبنان وطناً، لا طيفَ وطن. ولعلّه أبرز من عبّر عن موقع لبنان، ورسالة لبنان، في هذه المنطقة من العالم، وهو القائل "سيظلّ لبنان حيث هو من الطبيعة ومن التاريخ همزة وصل بين الشرق والغرب اللذين يلتقيان فيه". وهو الذي وصف ثقافة لبنان بقوله "ثقافة تمازج"، ورسالته بقوله "رسالة تواصل".


وفي عرفه أنّ "الصداقات بين الدول يجب أن تقوم على أساس صداقة وطن مستقلّ لوطن مستقلّ، وصداقة شعب حرّ لشعب حرّ، لا صداقة فئةٍ هناك لفئة هنا، خارج الجماهير والشعب والوطن".

صحيح أنّ عمر فاخوري ترك بضعة كتب نفيسة (الباب المرصود - الفصول الأربعة - كيف ينهض العرب - أديب في السوق - لا هوادة…) لكنّ أكثر ما نحتاج إليه منها، في مرحلة الانهيار التي نعيشها، هو "الحقيقة اللبنانيّة"(نشر سنة 1944). فعمر رسم صورة لبنان كما رآها، وكما حلم أن تكون عليه، ولا شكّ في أنّه كان صادقاً في ما قاله، وفي استعماله حقلًا معجميّاً فيه "ضروب العظمة" أو " السموّ" و" الإشعاع اللبنانيّ" و"الروح اللبنانيّ" … في حديثه عن الشعب اللبنانيّ. وقد أعلى من ثقافة لبنان فقال "ستكون ثقافة لبنان إذن هي المثلى، ورسالته في الدنيا هي الفضلى، ثقافة تمازج ورسالة تواصل".

ولقد فهم "الروح اللبنانيّة" وعبّر عنها بكلّ الصدق والإيمان و… وذلك قبل أن يتولّى الأخوان رحباني وزكي ناصيف و… الاهتمام بهذا الموضوع والترويج للبنان مثلما رأوه. كما عبّر عن قناعته بنهائيّة الكيان اللبنانيّ لجميع اللبنانيّين، قبل وثيقة الوفاق الوطنيّ في الطائف بحوالى خمسة عقود.

هذا، وتميّز أسلوب فاخوري بهذه القدرة على التهكّم المفرط، واللذع الموجع، والسخرية القاتلة… فضلًا عن متانة السبك وترابط البناء.

عمر فاخوري" جسر الشعب إلى الأدب" على حدّ قول جوزف حرب (المصابيح - بيت الحكمة).

أمّا خير ما أختم به فقول رئيف خوري: "قلت له ذات يوم: علينا نحن أبناء هذا الجيل أن نكون في أدبنا كالمخل ينخفض ليرفع".

ولمّا رأى مئات العمّال يقرأون آخر قطعة كتبها "الخطر الأخير"، وهي من أغنى قطعه… قال لي: صحّت الحكاية. قلت: أيّة حكاية؟ قال: حكاية المخل الذي ينخفض ليرفع.

عذراً، عمر فاخوري، فنحن قوم لا نقرأ، ولربّما قرأنا ولم نأخذ كلامك على محمل الجدّ.


MISS 3