فشل ترامب الذريع في إبرام السلام بأفغانستان

09 : 38

عشية يوم السبت، قبل أيام معدودة من الذكرى الثامنة عشرة لاعتداءات 11 أيلول التي أطلقت الحرب الأميركية اللامتناهية في أفغانستان، كشف الرئيس ترامب في سلسلة تغريدات أنه ألغى قمة سرية يوم الأحد مع "طالبان" وقادة أفغان في "كامب ديفيد". السبب حسب قوله هو اعتراف "طالبان" بقتل جندي أميركي و11 آخرين في تفجير انتحاري "لاستعمال ورقة ضغط مزيفة" في مفاوضات السلام مع الولايات المتحدة.

صاح ترامب ممتعضاً: "أي نوع من الأشخاص يقتل هذا العدد من الناس لتحسين موقفه في المفاوضات؟ لم يحسّنوا موقفهم، بل زادوه سوءاً بكل بساطة!".

وفق صحيفة الـ "نيويورك تايمز" لم يكشف إعلان الرئيس إلا جزءاً بسيطاً من كامل القصة. وبحسب مسؤولين أفغان وغربيين وعناصر من "طالبان"، كان اجتماع "كامب ديفيد" رهاناً خاسراً من جانب إدارة ترامب، فقد شكّلت القمة التي اقترحها فريق الرئيس في أواخر الشهر الماضي محاولة لتسريع إنهاء المفاوضات، عبر جلب قادة "طالبان" وأفغانستان إلى الولايات المتحدة، كي تتمكن الأطراف المعنيّة من توضيح التفاصيل المتبقية وتعلن في النهاية عقد اتفاق سلام كبير وتلتقط الصور التذكارية.

أحرز المفاوضون الأميركيون وممثلو حركة "طالبان" تقدماً حقيقياً خلال تسع جولات من المحادثات على مرّ السنة الماضية، ما يشير إلى انتهاء الحرب الأميركية القائمة منذ 18 سنة في أفغانستان في وقت قريب. لكن لن يكون إنهاء هذه الحرب الطويلة شبيهاً بوقف إنتاج موسم برنامج تلفزيوني! صحيح أن الرئيس الأفغاني أشرف غني، الذي يستعد لإعادة انتخابه في نهاية الشهر وتم إقصاؤه من معظم المحادثات، وافق على المشاركة في القمة، لكنّ قادة "طالبان" عارضوا هذه الخطة وأصروا على رفض مقابلة الحكومة الأفغانية مباشرةً أو السفر إلى الولايات المتحدة قبل وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق مع الأميركيين. لكن لم يتحقق ذلك، لذا أُلغيت القمة سريعاً وأُلقي اللوم على "طالبان".

وحتى لو انعقدت القمة، لم يكن القادة الأفغان متأكدين من مسار الاجتماع والمفاوضات النهائية بحسب مصادر "تايمز". بعبارة أخرى، ربما خططت إدارة ترامب للارتجال حين تعجز عن عقد اتفاق سلام، فتتمنى بكل بساطة أن تصل القمة إلى النهاية العظيمة المنشودة. إنها أقرب استراتيجية متوقعة نظراً إلى سجل ترامب الغني بقرارات متسرعة ومبنية على الاستعراض بدل النتائج الملموسة في مجال السياسة الخارجية. تعهد ترامب بإنهاء الحرب خلال حملته الانتخابية وكثّف دوره الآن في المفاوضات، لكن لم يتّضح بعد ما إذا كان موقفه مفيداً أو مسيئاً. في الوقت نفسه، من الواضح أن الوضع ليس إيجابياً في ملفات خارجية أخرى.

أعلن زلماي خليل زاد، أهم مبعوث سلام أميركي، حديثاً أن الولايات المتحدة و"طالبان" توصّلا إلى "اتفاق في المبدأ" بشأن الانسحاب الأميركي من الحرب. لم يبقَ إلا 14 ألف جندي أميركي في أفغانستان، وتوقعت مسودة الاتفاق مغادرتهم خلال 16 شهراً. يُفترض أن ينسحب حوالى 5400 جندي بحلول ربيع العام المقبل، فيبقى 8600 لدعم القوات الأفغانية حتى التأكد من التزام "طالبان" ببنود الاتفاق. في المقابل، يجب أن توافق "طالبان" على المشاركة في محادثات سلام فورية مع الحكومة الأفغانية وتمنع "داعش" و"القاعدة" وأي جماعة إرهابية أخرى من تنفيذ العمليات على أراضيها.

لكن حين اقتربت الولايات المتحدة من الإعلان عن الاتفاق، برزت مؤشرات على انهياره. ذكرت قناة "إن بي سي نيوز" أن القادة الأفغان اعترضوا على الاتفاق المقترح لأنهم لم يشاركوا في التفاوض بشأنه. ويخشى الأفغان أن يؤدي الانسحاب الأميركي السريع إلى تكثيف اعتداءات "طالبان"، وقد عززت الحركة تلك المخاوف عبر تصعيد العنف تزامناً مع مفاوضات السلام. وكان المسؤولون الأميركيون يتمنون أن يدفع الاتفاق المبدئي "طالبان" إلى وقف العمليات العدائية، لكن ذلك لم يحصل. فبالإضافة إلى هجومَين انتحاريَين خلال أسبوع في كابول، شنّت الجماعة المسلحة اعتداءات في ثلاث مناطق أخرى وخطفت ستة صحافيين أفغان، فاعتبر قائد عسكري أميركي بارز في أفغانستان أن اعتداءات "طالبان" الأخيرة "ليست مفيدة بأي شكل في هذه اللحظة من تاريخ أفغانستان".



"السلام مع جماعة تتابع قتل الأبرياء لا معنى له" كرّر الرئيس ترامب وغرّد قائلاً: "إذا كانت "طالبان" لا تحافظ على وقف إطلاق النار ولا تزال مستعدة لقتل المدنيين الأبرياء تزامناً مع المفاوضات، يعني ذلك على الأرجح أنها لا تتمتع بالقوة اللازمة للتفاوض على اتفاق فاعل في نهاية المطاف". ذكر القادة الأفغان اعتداءات "طالبان" مجدداً يوم الأحد لتبرير إلغاء قمة "كامب ديفيد" والاحتفال بوقف مفاوضات السلام.

تتعلق مسألة شائكة أخرى بتوقيت وكيفية إطلاق سراح آلاف المقاتلين في "طالبان" من السجون الأفغانية. من المبرر أن يخشى القادة الأفغان انضمام هؤلاء المقاتلين سريعاً إلى عمليات "طالبان" المستمرة. وبغض النظر عن البنود التي توافق عليها الحركة، يظن منتقدو مفاوضات السلام أن أكبر مشكلة في هذه الجماعة المسلحة ترتبط بصعوبة تصديق عدم سعيها إلى الاستيلاء على البلد مجدداً بعد رحيل الجنود الأميركيين.

لا أحد يعرف بعد الخطوة المقبلة في مفاوضات السلام. أوحى ترامب في تغريداته بعدم عقد أي مفاوضات إضافية ما لم تلتزم "طالبان" بوقف إطلاق النار بشكلٍ دائم. كذلك، أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على وقف المفاوضات مع الحركة، لكنه لفت إلى احتمال أن يتغيّر الوضع كله خلال يوم أو يومين، بحسب تقييم ترامب للنتائج المترتبة عن هذا القرار.

في الحد الأدنى، أدت المفاوضات بين الولايات المتحدة و"طالبان" إلى إطلاق مرحلة إلغاء القرارات عبر حساب ترامب على تويتر، وهو تقدّم ملحوظ. لكن لطالما فشل أسلوب ترامب الدبلوماسي المبني على التهديد في إنتاج جهود ديبلوماسية حقيقية، فكيف بالحري اتفاقيات مهمة؟ وبما أن "طالبان" تقاتل بوتيرة شبه متواصلة منذ الاحتلال السوفياتي، فلن تتأثر على الأرجح بمواقف ترامب على "تويتر"، أو على الأقل ليس بالطريقة التي يتصورها الرئيس.

أوضح جايسون ليال، مدير "المختبر الميداني للعنف السياسي" في جامعة "دارتموث"، الوضع القائم في صحيفة "واشنطن بوست" يوم الأحد: يُشكك قرار إلغاء القمة علناً بالمصداقية الأميركية ويُضعِف الفصائل الداعمة للسلام داخل "طالبان". كذلك، يثبت هذا التحول تلاشي أثر الضغوط الأميركية على الحكومة الأفغانية، إذ لم يكن الوعد بتنظيم قمة "كامب ديفيد" كافياً لإقناع غني بكبت مخاوفه. حتى أن احتمال انهيار الحكومة وانتصار "طالبان" المباشر منح كابول ورقة مساومة مهمة (قد تكون الوحيدة!) في وجه حليفها الأميركي المنسحب. باختصار، ربما أدت تغريدات ترامب إلى تصعيب عقد السلام بدرجة إضافية.

في مطلق الأحوال، لم يكن التفجير الانتحاري القاتل في الأسبوع الماضي القشة التي قصمت ظهر البعير بنظر ترامب، كما زعم هو وبومبيو، بل إنه مجرّد عذر مستساغ سياسياً لحفظ ماء الوجه بعد انهيار خطة الإدارة بفرض اتفاق سلام نهائي كبير. لم توافق "طالبان" يوماً على وقف إطلاق النار، ويبقى العنف ورقة الضغط الوحيدة للمقاتلين. لقد أطلقوا اعتداءات مميتة على قوات التحالف والمدنيين الأفغان فيما كانت مفاوضات السلام مستمرة. لم تكبح تلك الاعتداءات مسار التفاوض سابقاً، وقيل إن قوات التحالف كثّفت عملياتها ضد "طالبان" في الوقت نفسه. ربما أوشكت الحرب على الانتهاء أخيراً، لكن لا مفر من سفك دماء إضافية قبل انتهائها.

ذكر ترامب على تويتر مقتل عضو من الطاقم الأميركي كجزءٍ من تبريرات إلغاء القمة. إنه الرقيب أول إيليس باريتو أورتيز (34 عاماً)، أب لثلاثة أولاد من بورتوريكو كان يخوض جولته القتالية الثالثة في أفغانستان. توفي بعد إصابته في تفجير انتحاري بالقرب من مكتب استخبارات أفغاني في كابول يوم الخميس. كذلك، أسفر ذلك الهجوم (واحد من تفجيرَين انتحاريَين أطلقتهما "طالبان" في كابول خلال الأسبوع الماضي) عن مقتل عشرة مدنيين وعنصر روماني آخر من طاقم حلف الناتو.

كان باريتو أورتيز الجندي الأميركي السادس عشر الذي يُقتَل خلال الحرب هذه السنة. في المحصلة، قُتِل أكثر من 2400 عسكري أميركي وأُصيب أكثر من 20 ألفاً في أطول حرب شهدها التاريخ الأميركي، ولا ننسى مقتل أو إصابة أعداد ضخمة من المدنيين الأفغان والباكستانيين وسط القتال. حتى الآن، يبدو أن الصراع سيستمر ويدخل عامه التاسع عشر في الشهر المقبل!