د. ميشال الشماعي

ما لا يُقَال...

22 أيار 2021

02 : 00

إنّ حقيقة ما يحصل في الساحة السياسيّة اللبنانيّة والإقليميّة تكمن في ما لا يُقَال، وليس في ما يُقال في المجالس والصحافة والاعلام. ولأنّنا اعتدنا قول الحقيقة مهما كانت صعبة، سنقولها وسنكتبها دوماً إنطلاقاً من قناعاتنا الكيانيّة ومن صلب وجوديّتنا في هذا العالم بشكل عام، وفي هذا الوطن بشكل أخصّ. فلبنان اليوم لا يشبه لبنان الذي ورثناه من آبائنا وأجدادنا، ولقد نجحت هذه المنظومة بتبديل ناحية من وجهته، لكنّها لم تنجح بتثبيت الهويّة التي تريدها بتبديل وجهه. وهذا ما لن تنجح به في بلد كلبنان لأنّ المقاومين اللبنانيّين مستعدّون في أيّ لحظة لاستعادة تاريخ مقاومتهم.

الحقيقة اليوم في مكان آخر، ولا تكمن في كيفيّة تشكيل حكومة، أو في إمكانيّة عقد تسوية، أو حتّى في الاستسلام لمن يملك القدرة العسكريّة الأقوى. فلبنان بلد حضاريّ، والقدرة الحضاريّة هي الأفعل فيه من القدرات الباقية كلّها مهما تعاظمت. ومَن يملك القدرة الحضاريّة في لبنان، وحده يستطيع أن يطبع الهويّة اللبنانيّة. وعلى ما يبدو أنّ الصراع حول أحقيّة وجود لبنان لم يمت، حتّى في عقول بعض المتلبننين. وهذا ما يؤلم أكثر. فلا عتب على أيّ شخص بشري لا يؤمن بحقيقة لبنان، لكن أن تجد مَن يحمل الهويّة اللبنانيّة، وينهل من مناهل الوطن بنهم، ويحاول أن يغيّر هويّة لبنان، هنا الطامة الكبرى. وهذا ما نرفضه.

من هنا، نلج أيّ بحث حضاريّ حول الحقيقة الوجوديّة اللبنانيّة. ولا يحقّ لأيّ طرف، لبنانيّ أو غيره أن ينظّر بأحقيّة هذه الهويّة. وهنا صلب اختلافنا مع نظام وفكر البعث العربي الذي لا يرى للبنان أيّ أحقيّة في الوجود. فلا مشكلة حقيقيّة مع أيّ شعب في العالم، فبنهاية المطاف، الهويّة الانسانيّة هي التي تجمع لبنان والعالم كلّه، لكن أن نسكت كلبنانيّين على تعديات حضاريّة على صلب حضارتنا عندها تكون نهاية لبنان والعالم.

هذه الحقيقة التي لن يفهمها أولئك الذين بايعوا هذا الفكر وهذا النّظام ولاءهم المطلق. لا بل رهنوا أنفسهم لمصلحة هكذا أنظمة توتاليتاريّة وتيوقراطيّة في الشام وطهران على حساب الهويّة الكيانيّة للوطن. وهذا ما لا يُفهَم، لكنّه يُقَال اليوم وسنقوله دائماً، لأنّنا لا نرى في لبنان إلا هذا الوجه الحضاري، وهذه الوجهة الحضاريّة. وهذا ما مكّن اللبنانيّين الكيانيّين الأحرار القدرة الحضاريّة الأقدر للتأثير في أيّ مجموعة حضاريّة موجودة ضمن الجغرافيا الوجوديّة اللبنانيّة.

والمفارقة الكبرى من بعض المتشدّقين بالمشاعر الانسانيّة، ومحاربة العنصريّة غير الموجودة أساساً إلا في كوامن نفوسهم السوداء، وتحت راياتهم البرتقاليّة المتصفرنة، هؤلاء الذين هبّت النخوة الانسانيّة عندهم فراحوا يدافعون عن الاعتداءات الحضاريّة والفكريّة بشتائم تعكس مدى رقيّهم الحضاري، مستمدّين قوّتهم من طاغوتهم المسلّح. وفات هؤلاء أن لا قدرة حضاريّة لديهم. وهذا ما خسروه بعد انكشافهم للملء أمام الرأي العام الذي بلور نفسه بنفسه، من دون الحاجة لأيّ دفع إعلاميّ، وصار يملك الحقيقة حول هؤلاء كلّهم.

لهذه الغايات مجتمعة، يخشى هؤلاء كلّهم أن يخوضوا أيّ تجربة استفتائيّة حول مصيرهم السياسي للأعوام القادمة، لأنّهم فقدوا القدرة الحضاريّة التي تتشكّل قوامها من الفكر الحرّ، والاعلام الحقيقي، وقدرة التواصل، لا سيّما في العمل بالشأن العام. وذلك أتى نتيجة خوضهم تجربة الحكم التي فشلوا فيها، بشهادة أوليائهم قبل أخصامهم. لذلك، لا تبدو الانتخابات النيابيّة كمطلب سهل المنال. ولكن التمسّك بهذا الحلّ كباب لتغيير المنظومة سيؤدّي في نهاية المطاف إلى تحقيقه، إن لم يكن اليوم فغداً حتماً؛ لأنّ البديل منه هو استفحال الصراع الذي قد يؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه. وهذا بالطبع ما لا يريده أكثر من ثلثي الشعب اللبناني. لذلك، فليطمئنّ الطواغيت، لن يحصل.

لبنان باقٍ، والدّعم آتٍ من سواعد اللبنانيّين الشرفاء والأبطال أوّلاً، ولن نقبل بأن تمسّ حضارتنا بأيّ اعتداء، لا ميداني ولا وجوديّ. ولنا مع الباطل ألف جولة وجولة حتّى انتصار الحقّ. وما نحتاج إليه قبل أيّ دعم خارجي، هو أن يقف اللبنانيّون كلّهم في مشروع سياديّ وكيانيّ ووجوديّ واحد، ويقولوا كلمتهم ويمشوا؛ تماماً كما قالوها في ذلك الـ14 آذار من العام 2005. وهذه لحظة ستأتي حتماً لأنّ لبنان بذاته مستمدّ وجوده من جوهر الوجود البشريّ الذي هو تلك الارادة الحرّة التي ميّز الله الانسان بها عن سائر المخلوقات، فلا يجوز التخلّي عنها أو مبادلتها بأيّ شيء آخر. لذلك نحن لن نتخلّى عن لبنان.


MISS 3