عيسى مخلوف

وقفة من باريس

العائد إلى كابُور

22 أيار 2021

02 : 00

شاطئ مدينة كابور مطلع القرن العشرين

مع انتهاء الحَجر في فرنسا، والعودة إلى الحياة الثقافية والمكتبات والمتاحف التي أقفلت أبوابها منذ فترة طويلة، افتُتح في مدينة كابور في منطقة النورماندي متحف جديد يحمل اسم "فيلّا الزمن المُستعاد" تكريماً للكاتب الفرنسي مرسيل بروست الذي أمضى في تلك المدينة فصول الصيف بين 1907 و1914، واستوحى منها ومن "الفندق الكبير" الذي أقام فيه صفحات أساسيّة من مشروعه الادبيّ الضخم "البحث عن الزمن المفقود".

المتحف رحلة في الزمن وعودة إلى المرحلة التي عاش فيها بروست من خلال كُتُب ومخطوطات وأثاث وأعمال فنّيّة رافقت الكاتب في حياته، بالإضافة إلى صور لبروست وأصدقائه ولنساء حضرنَ في نتاجه. هناك أيضاً أفلام وثائقيّة تُبرز ملامح الحياة الاجتماعيّة والثقافية في ذلك الزمن. أهمّيّة هذا المكان أنّه يُشعر الزائر بأنّه في منزله حيث يمكنه القراءة وتصفُّح كتب المكتبة والعزف على البيانو والاستماع إلى الموسيقى والتمتُّع بحديقة المبنى الذي شُيِّد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعكس هندسته صورة عن فنّ العمارة الذي كان سائداً آنذاك.

مدينة كابور التي تَحوّل اسمها في كتاب بروست إلى مدينة بَلبك، لم تنسَ أبداً زائرها المبدع الذي خلّدها في كتابه مضيفاً إليها روحاً أخرى جعلت منها، حتّى يومنا هذا، مكاناً ينضح بسحر الفنّ والأدب. ثمّة من لا يزال يفد إلى فندقها الكبير بحثاً عن صدى لوجود بروست في بهو الفندق أو في الغرفة التي ما زالت على حالها وتحمل الرقم 414، ومنها كان يشرف على البحر ويعثر في هدير أمواجه على إيقاعات يبثّها في صفحات كتبه. وقد رصد فيها تفاصيل الحياة اليوميّة للوسط البورجوازي الفرنسي مطلع القرن العشرين، كما رصد الوقت العابر وأثره على الكائنات والأشياء التي أمعن في وصفها كأنه يريد استعادتها عبر التذكُّر والاحتفاظ بضَوعِ ما فاح منها. هكذا يجمع بروست الماضي والحاضر في نصّ واحد لا ينتهي كحكايات "ألف ليلة وليلة". وهو يقول في هذا الصدد إنّ ثمّة قواسم مشتركة بين انطباعاته حيال كلّ ما يرويه: صوت الملعقة في الوقت الحاضر وفي لحظة بعيدة، عدم استواء البلاط، وطعم حلوى "المادلين" الذي يتطاول فيه الزمنُ الماضي على الزمن الحاضر، فلا يعود يعرف في أيّ من الزمنين يعيش.

كنّا ذكرنا في مقال سابق أنّ الجزء الأوّل من "البحث عن الزمن المفقود"، وعنوانه "من جهة سوان"، رفضت نشره دور نشر فرنسيّة عدّة من بينها دار "غاليمار"، وقلّة كانت تعرف حينئذ أنّ هذا الكتاب سيكون علامة فارقة في الأدب الفرنسيّ وواحداً من التحف الأدبيّة في القرن العشرين. لقد أكّد بروست في عمله هذا أنّ الأسفار البعيدة يمكن أن تحدث من دون الاعتماد على وسائل نقل، بل من خلال تجديد النظر فحسب، وهذا ما تجسّده عبارته الشهيرة: "رحلة الاستكشاف الحقيقيّة ليست البحث عن مناظر طبيعيّة جديدة، وإنما الحصول على عيون جديدة". بهذه الحساسية العالية كتب مرسيل بروست نتاجه، وبثقافة موسوعيّة لا تُخفى عن هذا النتاج، ولا عن نتاجه النقديّ الذي تجلّى في قراءته لعدد من الأدباء والفنّانين التشكيليّين، ومنهم بودلير ونيرفال وفلوبير وإدوار مانيه.

على المستوى الشخصي، تأخّرتُ في دخول عالمه الأدبيّ، لكن ما إن عثرتُ على مفاتيحه حتّى أصبح، بالنسبة إليّ، زمناً مستعاداً حاضراً. كذلك الأمر بالنسبة إلى رؤيته النقديّة، هو الذي يقول إنّ "كلّ الفنّ الحقيقيّ كلاسيكيّ"، أي أنه يتجاوز زمنيّته ولا يكتسب قيمته من خلال التصنيف. بروست لا يكتسب قيمته من التصنيف أيضاً، وتحليله النقديّ لا يزال يُسائلنا حتّى الآن، بموضوعيّته ودقّة ملاحظته، باستثناء نظرته القاطعة إلى فيكتور هوغو.

لقد أمضيتُ وقتاً طويلاً لأتخلّص من الحُكم الذي أطلقه عليه. وكان قد اعتبر أنّ نتاج هوغو "الواسع" يبدو "رخواً، فضفاضاً ومن دون عَصَب" بالمقارنة مع كتاب واحد عنوانه "أزهار الشرّ". منذ فترة، وقع نظري بالصدفة على عبارة من نصّ مسرحي لهوغو جاء فيه: "تَـَفتح الرسالة وتقرأ: سيّدتي، هناك، تحت قدميكِ، في الظلّ، رجل يُحبّك. تائه في الليل الذي يَحجُبه، ويُعاني معاناةَ دودةِ أرض تَعشق نجمة، لكِ تمنح روحها إذا لزم الأمر. وتموتُ في الأسفل، بينما أنتِ، في الأعالي، تَلمعين وتتألّقين"... رومنسيّة، صحيح. لكنّها رومنسيّة جميلة. وثمّة نصوص في العِشق تجعلك تشعر، فيما تقرأها، أنك أنت نفسك عاشق.


MISS 3