نوال نصر

حروفٌ وريشة وألوان ووجع

رسومٌ كاريكاتورية حرّة وحرّة وحرّة

18 أيلول 2019

01 : 53

الحريّة لنا ومفتاحُها سيبقى في أيدينا، مع قلمٍ وجرأة ومسؤولية، ونقطة على سطرٍ جديد. أما هو فبين يديه ريشة مغمسة بلونٍ رماديٍّ وابتسامة ساخرة وكثير من الوجع وفنّ عظيم. هو الشريك الآخر في "جريمة الحريّة الإعلامية". هو بيار صادق ومحمود كحيل وناجي العلي وعلي فرزات وستافرو جبرا وعماد حجاج. هو من حاك الوجع برسومات حرّة حرّة.هو "الكاريكاتوريست".

في كلِ مرّة يُلامسُ فيها القمع واحات الحرّية يأخذُنا البال والعقل والذاكرة الى أسماء ووجوه ورسومات حيكت فيها الرسوم الكاريكاتورية بأناملٍ ذهبية، وببعض المرح وبكثير من الإحساس، وجعلتنا نضحك ونحن ندمع. ألا يُقال "شرّ البلية ما يُضحك؟". رحم الله بيار صادق الذي ترجم وجع الناس وقمع السلطة بريشةٍ فريدة وبشخصية لبنانية، بطربوش وشروال وفلاح، "فش خلق" الكثيرين والكثيرات ممن أبوا الخنوع أمام الذلّ والقمع والتسلط وظلوا يبحثون بين حروف الصحافة وخطوط "الكاريكاتوريست" عن أوكسيجين بقاء.



بيار صادق، المتمرد، جعل الناس الذين يتألمون على وقعِ الثواني، لألفِ سببٍ وسبب، في جمهورية تعاقب حكامها على قهرهم، يقرأون الصحيفة "بالمقلوب"، من صفحتها الأخيرة، من رسمٍ كاريكاتوري "يفش الخلق". الناس في عطشٍ مستمرّ للتعبير الحرّ. لكن السلطة، في المقابل، في سعيّ دائم لاجتذاب من يمكن اجتذابهم من الأحرار أو للتسلط، أو محاولة التسلط، على من لا تنفع معهم كل عوامل الجذب والترغيب. تكتيك. تربح إذا ضعف الحرّ وتضعف إذا واجه. بيار صادق واجه ولم ينفد أحد من ريشته. هو الصادق الحرّ.





لنذهب صوب الحدود، وما بعد بعد الحدود، صوب سوريا- الأسد بالتحديد، التي فيها كُلّ مقومات القمع والتسلط. ولنسأل رسام الكاريكاتور علي فرزات الموجود من زمان وزمان خارج سوريا عن الحريات الإعلامية؟ وهل يقع رسم الكاريكاتور على المتسلط كما الساطور؟ تحية مجبولة بكثير من الجرأة من الرسام السوري المعتصم حاليا عن الكلام والمنكبّ على الرسم. لكن ماذا عن محطات مضت؟ هل نجح حيث أخفق آخرون؟





غباء السلطة

يُصنفُ فرزات أحد أهم مئة رسام كاريكاتور في العالم. وهو عارفٌ تماما في لعبة الترميز والتلميح في دولة متسلطة. وهو القائل "إن نظامين كانا لغبائهما الفضل" في دفع مسيرته قدما وهما "نظام صدام حسين الذي أوصله الى نصف الطريق والنظام السوري القمعي و"التشبيحي" الذي جعله يتابع النصف الثاني. غباء أنظمة عززت حضور أحرار. 




من يرسم بحرية ومن يكتب بحرية ومن يرى بالقلب والعقل لا بالقمع والتسلط يكون ممثلاً جيدا للمهمشين والمقموعين. وكلّ من رسموا الوطن والمواطن والدولة والدويلات والقمع والحرية حظوا بشعبية واسعة لدى كلّ من "بلعوا الموسى" و"عضوا على الجرح" لكنهم لم يغفوا نهائيا على ضيم. فالكبت لا بُدّ أن يولّد في لحظة ما إنفجاراً. و"الكاريكاتوريون" الذين وقفوا في وجه "الدكتاتوريين"، كما كثير من الصحافيين، وقالوا بأسلوبهم: لا، كانوا الفاصل بين سكوت الأكثرية وانفجار الأكثرية.

علي فرزات لم يهبط، كما سواه، من الفضاء بل هو ابن بيئته العربية، السورية بالتحديد، ومثله مثل ناجي العلي ومحمود كحيل وآخرين.




أتذكرون ناجي العلي؟ هو الرسام الفلسطيني اللاذع الذي لم يكلّ أو يملّ في السعي الى إحداث التغيير السياسي عبر 40 ألف رسم كاريكاتوري. واغتيل بطلقة نارية أتت تحت عينه اليمنى وأدخلته في غيبوبة ومن ثم الى الموت. وكُلّ من ينشدون الحرية في عالمٍ فيه كثير من السخط يتذكرون شخصية "حنظلة" التي ابتدعها ناجي العلي وباتت أشبه بأيقونة تمثل الضعف العربي.

الكاريكاتوريون يجدون دائما شخصيات لرسوماتهم. فبيار صادق، الصادق جدا، أوجد كما سبق وقلنا "الفلاح اللبناني الفطن"، والرسام الأردني عماد حجاج أوجد شخصية "أبو محجوب الكرتونية" وناجي العلي أوجد شخصية "حنظلة" التي باتت رمزاً فلسطينيا و"فاطمة" التي شكلت شخصية المرأة الفلسطينية...




كثيرا ما يختصر الكاريكاتور كلّ الأحداث عبر رسوم ساخرة تجعلنا نبتسم من الألم. وهذا فنٌّ مشاغب، مشاكس، يوقظ ولا يقتل، ويقلب الدنيا ويدحرج الحجارة بابتسامة. هو فنٌ يهواه كثيرون ويخشاه كثيرون وتتمنى "السلطات" لو يبهت ويزول. لكن هل سيُسمح شعبياً بزواله؟ محمود كحيل هو رسامٌ كاريكاتوري آخر من لبنان، من طرابلس بالتحديد، وهو أوّل من صوّر أحداثا ذاعت على الجمهور مباشرة. رسومه كانت من أرضِ الواقع وطغى على أسلوبه الحس الفكاهي وطالما كان يخطّ رسوماته بقلم رصاص أولا ثم بخطوط ملونة نهائية وخلفية بيضاء، أما توقيعه، في بداياته، فكان رسم طير غراب. رسامو الكاريكاتور قد يكونون غرباء الأطوار بعض الشيء وهذا أحلى ما فيهم لأنهم، بطبيعتهم هذه، يتخلون عن الضوابط التي تأسر ويحلقون بحرية في فضاء رحب.



فنّ تاسع لا يموت

فلنطرح عالياً السؤال مجددا: هل علينا أن نخاف على مصير كلّ الرسوم الكاريكاتورية التي ضخّت فينا إكسير الحرية؟ هل علينا أن نخاف على حالِنا من اضمحلال هذا الفنّ التاسع الحرّ الساخر كما تضمحلّ كثرة من الأقلام الصحافية الحرّة؟

تحاول بعض بيوتات من رحلوا من كبار الكاريكاتوريين الحفاظ على الإرث العظيم، الذي ساهم بنتائج عظيمة، لهؤلاء. فلنأخذ "مبادرة معتز ورادا الصواف المصوَّرة العربية" في الجامعة الأميركية في بيروت على سبيل المثال لا الحصر، التي ابتكرت جائزة محمود كحيل من أجل المساهمة في حفظ تراث الفنانين الكاريكاتوريين الثقافي عبر إعادة الرمق الى فن "الشرائط المصورة" في العالم العربي وتعزيز الأبحاث حولها وتشجيع إنتاجها ودرسها وتعليمها، في وقت هناك من يتعامل، أو يتقصد أن يتعامل، مع هذا الفن بعدم احتراف.





نتابع في أحيانٍ كثيرة مشاكلنا وهمومنا والقمع الذي يمارس علينا ونحن نبتسم. وهذا سرّ الكاريكاتور. لكن هل يبتسم السياسيون أيضا لرسومهم؟

السياسيون الذين في السلطة لا، أما من هم في إجازة قسرية منها فبلى. هناك سياسيون "يقلبون" الأرض على كاريكاتور وهناك من "يقلبونها" من أجل الحصول على كاريكاتور. روح السياسي تؤثر و"تطلعاته" أيضا.





واجهوا بريشة وقلم

السياسيّ والصحافي من زمانٍ وزمان على تنافرٍ وحين يحصلُ وئام يكون الأساس، أساس ما، قد تحطم. ناجي العلي دفع الثمن حياته. سليم اللوزي أيضا وسمير قصير وجبران تويني واللائحة طويلة طويلة وهي تُسطّر أسماء من واجهوا التسلط بالريشة والحرف. لكن، هل حالنا تُشبه حال أولاد المهنة في الغرب؟

أتتذكرون حادثة رسوم مجلة "شارلي إيبدو" التي ذهب ضحيتها عشرة رسامين كاريكاتوريين؟ هل يمكن أن ندافع عن حرية التعبير حتى ولو كانت تتناقض مع أفكارنا ونظرتنا ونظرياتنا؟ حصلت تلك الحادثة في باريس، أما في لبنان فكفلت المادة 13 من الدستور اللبناني "حرية إبداء الرأي قولا وكتابة وحرية الطباعة وحرية الإجتماع وحرية تأليف الجمعيات" لكن "ضمن دائرة القانون". ومن هذه "الدائرة" يتعسف كثيرون!





"أهلا بكم في جمهورية خامنئي". مانشيت حركت السلطة في لبنان ضدّ صحيفة "نداء الوطن". وقبلها حرّك كاريكاتور نُشر في المجلة الفرنسية "كورييه إنترناسيونال"، قيل أنه مسيء للمرجع الشيعي الإمام علي خامنئي، الرقابة في لبنان. فحجبته. ثم قُدمت شكوى أمام النيابة العامة الإستئنافية في مدينة النبطية ضد كُلّ من الإعلامييّن ديما صادق ونديم قطيش لأنهما أعادا نشر الكاريكاتور. نعود الى الخارج، الى الولايات المتحدة الأميركية، التي رسمت أكثر من ثلاثين كاريكاتورا لرئيسها دونالد ترامب في أقل من مئة يوم. إنتقدوه هناك كثيرا بعد أن وصف الإعلام بالسخف والكذب. وأظهروه يعتدي على تمثال الحرية محاولا هدمه، في إشارة الى ميوله الديكتاتورية.

هديرُ أحرار

أرسموا. أرسموا. هذا هو طلب البشر، عموم البشر، من رسامي الكاريكاتور الذين ينجحون بريشة و"لمعة" أن يعبروا عن كل الهدير الذي يجتاحهم.

في كلِ حال، قبل أن يُمسك الكاريكاتوريون بدونالد ترامب بكثير، رسم البريطاني جيمس جيلاري، الذي اشتهر برسومه السياسية الساخرة، الأمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت قصيراً ومتعجرفاً بقبعة كبيرة وملونة. كما رُسمت الملكة أنطوانيت زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر بشعرٍ مصففٍ مبالغ جداً فيه.


معّ؟ ضدّ؟ الأهم من كلّ هذا طرح السؤال: أليس من حقّ من يرسمون هواجس الناس وتمنياتهم وتطلعاتهم وشكواهم التعبير بطرقٍ ليس فيها لا خنجر ولا طلقة رصاص بل حرف وريشة وألوان وفكرة؟





الرسوم الكاريكاتورية مؤثرة. رسامو الكاريكاتور، أصحاب القضايا الحقة، قضايا الناس، تُرفع لهم القبعة. والحقيقة والحرية لا هوان فيهما ومعهما، شرط أن يبتعد كل ذلك، بحسب كبار الكاريكاتوريين، عن أي تجريح. لكن الخوف أن يضع الرسام الكاريكاتوري ضوابط تلقائية نفسية على حاله لأن هذه الرقابة الذاتية حين تفرض نفسها أحيانا، على بعض الأشخاص، في بعض المجتمعات، بعد سنين أو عقود من القمع والإذعان، لا يعودون يجرؤون على التخلص منها. وهذا أخطر أنواع القمع الذاتي.

ستافرو جبرا، الرسام اللبناني الآخر المبدع، كان له أسلوبه في الرسم من دون "أي محرمات" وطالما ردد قبل أن يرحل عن هذه الدنيا "سأرسم من أشاء وسأرسم بكلِ تأكيد الأمين العام لحزب الله الى أن يتوقف عن ممارسة السياسة". رسام الكاريكاتور قال ما قال ورحل.



ماذا عن الكوميكس؟

كثيرون لا يميّزون بين الكوميكس والرسوم الساخرة. فالأولى لمن لا يعرف ان يروي قصة سياسية أو إجتماعية أو رومانسية أما الكاريكاتور فيُسجّل موقفاً أو حدثاً. في مصر، ساعد الكوميكس على توثيق أحداث 25 يناير. وهذا إيذان أن لهذا الفن دوراً في صناعة أرشيف من نوع جديد للأعمال الفنية ووسيلة مقبلة لحفظ التراث ووسيلة حاضرة للدفاعِ عن الحرية.

نختم؟ نتابع السرد؟ نفتشُ عن الحرية بين الأحرار؟ نستولدها؟ نبحثُ بعد وبعد عن هذا الفنّ التاسع الحرّ؟

فلنختم... هو عين ٌ ترى وعقلٌ يتمرد وأصابع قادرة على استخدام أطراف الريشة، أو القلم المسنن، كحدّ السيف... فلنرفعهما عالياً جداً.


MISS 3