عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الحالمون بالمُدُن

5 حزيران 2021

02 : 00

اللوحة بريشة الفنّان أمين الباشا

منذ التاسع عشر من الشهر الماضي، بدأت العاصمة الفرنسيّة تعود إلى ذاتها. عادت حركة الشارع وشرفات المقاهي والقسم الأكبر من مرافق الثقافة التي كانت من أكثر المرافق تضرّراً بسبب الوباء (عدد العاملين في هذه المرافق يتجاوز 700 ألف شخص). عادت باريس إلى روحها، وروحها هي الجانب الثقافيّ منها. لقد فتحت المتاحف أبوابها بعد أشهر طويلة من الإغلاق. من متحف "اللوفر" إلى متحف "أُورسي" و"كي برانلي" و"غِيميه" وغيرها من المتاحف. متحف "اللوفر"، الأكبر في العالم، هو مدينة داخل المدينة، وتجتمع فيه نماذج أساسيّة من فنون الشعوب كافّةً، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا. ويؤكّد هذا المتحف أنّ في استطاعة البشر أن يفعلوا شيئاً آخر غير الحروب.

إلى جانب هذه المتاحف، افتتح من جديد متحف "كارنافاليه" الذي كان قيد الترميم والتحديث، ليعرض مجموعته الخاصّة التي تتألّف من أربعة آلاف قطعة تتمحور حول مدينة باريس منذ القِدَم حتى القرن العشرين. إنّه ذاكرة المدينة في أدقّ تفاصيلها ومحطّاتها التاريخيّة المختلفة. هنا، يتبدّى، في فضاء واحد، الماضي والحاضر بعدما تحوّل تجديد هذا المتحف، واستعماله التكنولوجيا المتطوّرة، إلى شرفة تطلّ على المستقبل. ولم يحدث ذلك لولا مشاركة عدد كبير من المتخصّصين الفرنسيين والأجانب في حقول مختلفة منها التاريخ والجغرافيا والهندسة المعماريّة والآثار والاجتماع والفنّ والأدب، فأصبح، بهذا المعنى، نموذجاً للمتاحف التي تراعي تحوّلات العصر وتستشرف الزمن الآتي. في هذا السياق، اهتمّ المتحف بزوّاره الأطفال أيضاً فجعل نسبة عشرة في المئة من محتوياته على ارتفاع يتناسب وقاماتهم الصغيرة ممّا يشجّعهم على التعوّد على ارتياد المتاحف.

تحديث المتاحف، هنا، ليس بالأمر الجديد. هذا ما سبق أن خضع له "اللوفر"، وبعض أجنحته أعيد صَوغها بصورة كاملة كما حدث مع جناح الفنون الإسلاميّة الذي شهد ولادة جديدة في العام 2012 عندما أعيد افتتاحه وفق هندسة مبتكَرة وتوزيع سينوغرافي جديد، فعُرضت فيه مجموعات فنّيّة تتألّف من قرابة ثلاثة آلاف تحفة من ثلاث قارّات، من إسبانيا إلى الهند مروراً بالعالم العربيّ، منذ القرن السّابع حتّى القرن التّاسع عشر.

نراقب باريس وحركتها الآن، كما نراقب عودة مدن أخرى إلى حياتها الثقافيّة وإلى حيويّتها، وفي بالنا مدينة يتيمة على الضفّة الأخرى من المتوسّط تعيش أسوأ اللحظات في تاريخها الحديث، ويتكاثر حولها الذبّاحون والقتلة. تلك المدينة تُدعى بيروت، وقد تلألأت، ذات يوم، ببريق مختلف، وتميّزت بفسحة من الحرية التي وُلدت في كنفها الجامعات والمسارح وصالات السينما وغاليريهات الفنّ والمكتبات والندوات ودور النشر والكتب، وظنّ الحالمون بها أنّها أقوى من التربة السياسيّة التي وجدت نفسها فيها، وأقوى من قوى الاستبداد المحيطة بها من كلّ جانب.

هذه المدينة التي أَقفَلت وتُقفَل فيها تباعاً مسارحها وصالات السينما والعروض الفنية، تَدمَّر أو تضرّر بعضها، كما حدث مع متحف سرسق، بفعل انفجار الرابع من آب الذي عُرف مَن سبَّبه، لكن، في الوقت نفسه، لن يُعرَف أبداً، ككلّ الجرائم الكبيرة التي تُرتكب في البلد الصغير.

الخطر يزنّر المدينة من جميع الجهات، وكذلك من الداخل نفسه ومن "ثقافة" أخرى معادية للعقل والتعدّد والانفتاح. "ثقافة" لا تقوم على البحث والتساؤل، أي على الفكر النقدي، بل هي نقيض هذا الفكر تماماً لأنها تريد المجتمع أُحاديَّ النظر والفكر، ولأنها تنهل من مصدر واحد ومن أفكار جاهزة ومُطلَقة ويُنظَر إليها بوصفها أفكاراً مقدّسة لا يمكن المساس بها أو مناقشتها على الإطلاق، ولذلك فهي تتعاطى مع البشر كقطيع، ومع الأوطان كسجون وأقفاص. ولم تكن مصادفة حملة الاغتيالات التي بدأت في ثمانينات القرن العشرين وطالت، بين مَن طالت، مفكّرين وكتّاباً وإعلاميين. وهؤلاء لا يحملون سلاحاً. كان مُهندسو الرُّعب يعرفون أنّ التخلّص من تلك البيروت المنفتحة على الشرق والغرب، والتي لا تشبههم بشيء، يقتضي تصفية الذين يفكّرون فيها ويؤمنون بالحرية ويتجرّأون على قول ما لا يريد القاتل سماعه.

الذين يرفضون التعدّدية وحرية التعبير لا يعرفون إلاّ لغة واحدة هي العنف. لذلك فهم يقتلون الآخر المختلف، وقبل أن يقتلوه يعملون على شيطنته وتشويه صورته. أي أنّهم، في اختصار، يجرّدونه من بُعده الإنسانيّ. هكذا تحلّ الوحشيّة محلّ العقل، والفوضى محلّ المنطق، ويصبح البلد الذي يسرح فيه هؤلاء رهينةً بين أيديهم.


MISS 3