عيسى مخلوف

إدغار موران شاهد على العصر

12 حزيران 2021

02 : 00

في الثامن من شهر تموّز المقبل، يبلغ عالم الاجتماع الفرنسي المعروف إدغار موران المئة عام. يواكب هذا الحدث صدور كتاب جديد له بعنوان "أمثولات قرن من الحياة"، ولقد تحدّث عنه في الحلقة الأخيرة من برنامج "المكتبة الكبيرة" التي بثّها التلفزيون الفرنسي هذا الأسبوع.

في كتابه الجديد، يتوقّف موران عند محطّات أساسيّة من سيرته ونتاجه ومساره الثقافي، ومن خلال هذه السيرة والمسار يختصر عدداً من أطروحاته ومواقفه التي عبّر عنها في كتبه وفي مداخلاته المختلفة. يستهلّ كتابه بكلام عن الهويّة، انطلاقاً من السؤال الآتي: "من أكون؟" يقول إنه "كائن حيّ"، قبل أيّ شيء آخر. ثمّ يعدّد مكوّناته كلّها ليخلص الى انّ كلّ واحد منا له هويّة عائلته وقريته أو مدينته وبلده والإتنيّة الآتي منها والقارة التي ينتمي اليها. أي إنّ هويتنا هي، بالضرورة، هويّة مركَّبة، واحدة ومتعدّدة على السواء.

يتوقّف إدغار موران عند واقع العالم المعاصر وعند المخاطر التي تواجه الإنسانيّة جمعاء وتهدّد وجودها بسبب توجّهات سياسية واقتصادية لا يعنيها إلاّ السيطرة والربح. وحتى حين يتحدّث عن أهوال ما يجري حولنا، كما في الحوار التلفزيوني الأخير، فالابتسامة لا تفارق وجهه، وهي عنده مرادف لأمل "لا شفاء منه". لذلك، فهو يبدو كأنه يولد من جديد مع صدور كلّ كتاب جديد له، ويواصل معركته التي بدأها منذ عقود طويلة من أجل أنسنة العالم الذي يعيش تناقضاً مذهلاً بين تقدّمه العلمي والتكنولوجي من جهة، وتقهقره الإنساني من جهة أخرى. هذا التقهقر الذي لا يزال يتمثّل في الحاجة إلى خوض الحروب وفي استغلال الإنسان للإنسان، كاشفاً عن سلوك بدائيّ همجيّ لم يتغيّر بعدُ منذ سحيق الأزمنة.

ويلاحظ موران، في هذا السياق، أنّ ثمة حدثين علميّين غير متوقّعين غيّرا تاريخ البشريّة، ولم ينتبه إليهما، عند حدوثهما، لا الإعلام ولا الرأي العامّ وأهل السياسة. الحدث الأول هو اكتشاف العالِم الإيطالي إنريكو فيرمي، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء، خصائصَ الذرّة في الفيزياء النووية. وكان ذلك في روما في العام 1932. تطوّر هذا الاكتشاف بعد عشر سنوات ليصبح من الممكن استعمال الطاقة الذرية في صناعة القنبلة النوويّة التي بدأت معها مرحلة جديدة من تاريخ البشر على الأرض. أما الاكتشاف العلمي الثاني الذي تقف وراءه العالمة البريطانية روزالند فرانكلين فهو اكتشاف الحمض النووي (في العام 1953) الذي أدّى، في وقت لاحق أيضاً، إلى فكّ الشيفرة الجينيّة التي تمثّل التراث الوراثي لجميع الكائنات الحيّة، ممّا سمح في وقتنا الحالي بالتدخّل في الإرث الوراثي وتغييره عند سائر الكائنات الحيّة بما فيها البشر.

يرصد موران الصراعات والتحديات الكبيرة التي يواجهها العالم اليوم، لكنّ ذلك لا يمنعه من الحديث عن السعادة. وهو يعتبر أنّ فترات السعادة التي عاشها في حياته تنطوي على بُعد شعري وأنّ الشعر، بالنسبة إليه، هو أحد الحقائق الأساسية. لكنّ الشعر عنده ليس شعر القصائد فحسب ولا يوجد في عالم الفنّ وحده، بل هو الشعر الموجود في الحياة أيضاً، في الجمال والمحبّة والحبّ والرقص والموسيقى وفي تأمّل وجه أو مشهد طبيعي، وكذلك في بعض تجاربنا ولقاءاتنا، وهذا ما يحدّ من رتابة العيش اليومي ويعطي الحياة معنى ويجعلها قابلة للعيش، فلا تعود حياة الإنسان فيها مجرّد حسابات مادّية فحسب.

في كتابه "أمثولات قرن من الحياة"، لا ينسى إدغار موران، الذي تميّز بنزعته الإنسانيّة واهتمامه الدائم بمصير البشرية ومستقبلها، العودةَ إلى الموضوع الفلسطيني والتعبير عن موقفه المناهض للسياسة الإسرائيلية حيال الشعب الفلسطيني، وكان قد تعرّض لحملة افتراءات وانتقادات شديدة إثر المقالات التي نشرها حول هذا الموضوع في صحيفة "لوموند"، ووصلت تلك الانتقادات إلى حدّ اتهامه بمعاداة الساميّة، هو المتحدّر من عائلة يهوديّة.


MISS 3