عيسى مخلوف

السلوك الإنسانيّ بوصفه إبداعاً

19 حزيران 2021

02 : 00

لوحة للفنان البريطاني فرانسيس بيكون

أحياناً كثيرة، لا دخل لشخص المبدع بما يبدعه، أو لنقل إنّ لحظة الإبداع عنده أعلى بكثير من مواقفه وسلوكه في حياته اليوميّة. الأمثلة كثيرة، شرقاً وغرباً، وهي القاعدة لا الاستثناء.

الشاعر الفرنسي لْوي أراغون كان يفضّل ستالين على مارسيل بروست، وموقفه السياسي وجد طريقه إلى نتاجه الشعري. في ثلاثينات القرن الماضي، كتب قصيدة عنوانها "جبهة حمراء"، لمَجد الشرطة الستالينية، كما كتب نصّاً آخر جاء فيه: "عندما تعطيني زوجتي الحبيبة طفلاً، فإنّ الكلمة الأولى التي سأعلّمه إيّاها ستكون: ستالين". من قال إنّ صاحب ديوان "عَينا إلسا" يمكن أن يهبط إلى هذا الدرك؟ وقتذاك، انتقده بشدّة عدد من الكتّاب والمثقّفين ومن بينهم عرّاب الحركة السورياليّة أندريه بروتون.

المواقف السياسيّــــة والإنسانيّة لعدد كبير من الشعراء والروائيين والمفكّرين الذين طبعوا المشهد الثقافي الحديث كانت، هي أيضاً، عرضة للانتقاد. انتقاد الأنانيّة المفرطة للشاعر راينر ماريا ريلكه وطريقة تعامله مع النساء، وعنصريّة الكاتب لْوي فردينان سيلين، وتَعاطُف بورخيس مع الحكومات الإسرائيليّة، وانتهاكات أندريه جِيد وميشيل فوكو للأطفال. إنه الوجه الآخر لهؤلاء المبدعين، وهو الوجه النقيض لما يمثّلونه على المستوى الأدبي والفكري والجمالي.

سعدي يوسف الذي فارقنا منذ أيّام كان من طينة هؤلاء. صحيح أنه كان أحد الشعراء الحقيقيين - ولا يحتاج الشاعر الحقيقيّ لأن يُقال عنه إنه شاعر كبير- لكنه، على الصعيد الإنساني، لم يكن يشبه نتاجه الإبداعي. وهو، في هذه الحال، ليس وحيداً. في الرابع والعشرين من كانون الثاني من العام 2011، شبّه الشاعر عباس بيضون بكازيمودو، ويعني به أحدب "نوتردام"، إحدى شخصيّات رواية فيكتور هوغو. توجّه إليه قائلاً: ""أنتَ كازيمودو، حقّاً... كيف كنت (وأنت القزم المشوّه) تتقدّم مجموعة من الأقزام". ثمّ بعد سنتين (9 تموز 2013)، كتب مقالة تحدّث فيها عن السود، وكان مطلعها: "كأنّ تحرير الزنوج كان خطأ تاريخياً"، وأضاف: "وإلاّ كيف يتقدّم زنجيّان، أسيادهما البيض، في قتل غير البيض (نحن العرب مثلاً)". وبعد أن استعاد موقف المتنبّي، ختمَ يقول: "لا أريد أن أستعيد المتنبّي".

هو المشغول بانتقاد الإمبريالية والصهيونية كان، كالكثيرين بيننا، لا يلتفت إلى أيّ ديكتاتور عربي حتى لو قصف شعبه بالأسلحة الكيميائية! نعم، مواقف الكاتب السياسيّة والاجتماعيّة لا تقلّل من قيمته الإبداعية، لكنها لا تبرّر، مهما كانت أهمّيّتها، المواقف العنصرية واللاإنسانية. الحديث عن النقاء العرقيّ عرفناه مع عدد من المثقّفين والكتّاب والفلاسفة والمسرحيين ورجال القضاء والقانون والأطبّاء الألمان الذين انتصروا لهتلر والحركة النازية. لا يكفي أن يكون المرء متعلّماً ليكون إنساناً. لا يكفي أن يكون مبدعاً. منذ قرابة ألف عام، كان الشاعر المُعتضد بن عبّاد، ملك إشبيلية في عصر ملوك الطوائف، يعلّق رؤوس خصومه الذين أُعدموا، في الأشجار الموزّعة على حديقة قصره "لتطلع منها الثمار".

غريب كيف أنّ الإبداع يكون، في حالات كثيرة، مخالفاً لمن يبدعه، ويأتي من المَقلَب الآخر للنّفس. كأنّ لحظة الإبداع قائمة بذاتها، بمعزل عمّن يبدعها، ومنفصلة عن واقعه اليوميّ. تختمر في الأعماق كالينابيع الغائرة التي سرعان ما تتفجّر وتفيض. يصبح المبدع، في هذه الحال تحديداً، شبيهاً بالدودة التي تخرج منها فراشة تحملها خفّة الهواء وتتلاعب بها، ترفرف حولك وتبشّرك بنهار جميل جديد.

يدفعنا هذا الواقع إلى طرح تساؤلات عدّة منها: هل المبدع والإنسان شخص واحد؟ كيف يكون الإنسان الواحد مبدعاً ومضيئاً في كتاباته وابتكاراته وفنونه، لكنه وضيع ومُعتم في مواقفه وسلوكه وتصرّفاته؟ هل يشكّل جمال القصيدة أو الرواية أو اللوحة الفنّيّة حصانة تحمي المبدع حتى لو ارتكب جريمة أو عمل على تغطيتها بصمته؟

النقد الموضوعي علامة صحّيّة في المسار الثقافي، وهو مرآة لحياة الثقافة وحيويّتها. أمّا غياب المراجعة والنقد فما هو إلاّ صورة لضمور الثقافة وتخلّفها، وهو يزدهر في المجتمعات التي درجت على تقديس الأشخاص وتأليههم ليس في المجال السياسيّ فحسب بل في المجالات الإبداعيّة أيضاً.

تُرى، متى يحين الوقت لنتكلّم عن السلوك الإنسانيّ بوَصفه إبداعاً أيضاً، وتحدّياً للمبدعين أنفسهم ولمن يتابع إبداعهم على السواء؟


MISS 3