د. فادي كرم

أزمة صراع حضارات.. لا أزمة خلافات سياسية

28 حزيران 2021

02 : 00

يُخيّل لقارئ عنوان المقالة أنّني قد اقترفتُ خطيئة فكرية بتصنيف اللبنانيين حضارياً، تبْعاً لإنتماءاتِهم الطائفية والمذهبية، وإنّني قد زحطت مع المُغالين الكَذَبة في مؤامرات إثارة النعرات الطائفية تدعيماً لحروب الصلاحيات المرحلية، التي يعودون لها من وقتٍ لآخر، حسبما تستدعي حسابات المفاوضات التحاصصية والتسويات العابرة للطوائف المُرتكزة على تكتيكاتٍ رقمية سُلطوية خالية من أُسس الروابط الوطنية الشراكية. فمُحاولاتهم الشيطانية بالعودة الى "الاجتماع العصباني" حسب وصف لابن خلدون، البديل عن الاجتماع الوطني المدني، يدلّ على استهتارِهم الإجرامي بالوطن والطائفة والإنسانية جمعاء.

تشهد مرحلة افتراق شركاء المزرعة المُشكِّلين للغطاء الشرعي للدُويلة واللاشرعية، عودة وقحة الى الخطاب الطائفي الهادف فعلياً لتحصيل السلطات الخاصة المُخبّأ خلف شعار المطالبة بالصلاحيات الطائفية وحقوق الطائفة وإعلان المعارك البطولية الوهمية الخداعية، وكأنّ الصلاحيات المُعطاة أصلاً من المُشرّع الدستوري للطوائف بهدف إنجاح الشراكة الوطنية، تحوّلت مع هؤلاء الأفرقاء السياسيين لعبة قذرة، يُشهرونها من حينٍ لآخر بوجه بعضهم البعض، علّهم يستعيضون من خلال هذه المسرحيات بعضاً من شعبيةٍ هوائية، خدعوها في السابق، وضحّوا بها لاحقاً، ويسعَوْن لإستخدامها حالياً كذخيرةٍ في معركة شدّ الحبال ودفع البلاد الى التشنّجات الأمنية، ليُضيفوها الى الانهيارات الاجتماعية الشاملة.

إنّ صراع الحضارات المقصود في هذه المقالة، هو الصراع بين الحضاريين من كافة الفئات والطبقات والمدارس الفكرية، واللاحضاريين الغوغائيين الانتهازيين العدائيين للحوار والنقاش ومنطق تداول المسؤوليات، العاملين لصالح أجهزة دول اقليمية إلغائية دكتاتورية منبوذة دُولياً. إنّ انتماء السلطة الحاكمة لهذا المحور يحمّل أفرقاءها مسؤولية رسم صفحات حقبة مأسوية من تاريخ لبنان، فهذا الفريق المُكوَّن من تيار رئيس مُعظَّم "بالقوي" وحزب موجَّه تأليهياً من فقيه، طبع هذه الحقبة بالرجعية، النقيض الحقيقي للمسار الطبيعي للإنسانية، وسبّب الدمار للاقتصاد الحرّ الاستثماري المُنتج، وأدّى الى لاإستقرار مالي واجتماعي وسياسي وأمني، فأصبح هذا البلد الذي كان يُعدّ في السابق من أفضل الدول عيشاً في العالم، عنواناً لجهنّم على الارض.

تمرّ الدول والمجتمعات عادةً بأزماتٍ سياسية كبيرة وتحوّلاتٍ مهمة في مساراتها وخياراتها نتيجة تغيّر الأكثريات الناتجة عن التصويت الديموقراطي لشعوبها، ولكن التناقض الحادّ في مسار لبنان، لا علاقة مباشرة له بالقرارات السياسية العادية والتحالفات الداخلية ولا بالتباينات الطائفية، ولا حتى بالنظام، بل إنّه مُرتبط بشكل وثيق بأداء وحسابات حكّامه الحاليين الذين تبنّوا عقائد مُسهِّلة لمفهومِهم التدميري الإلغائي، فبالرغم من إعلانهم شعاراتٍ انسانية جميلة داعية الى العدالة الاجتماعية، أو شعاراتٍ إلهية، لا جدل فيها، فأداؤهم الفعلي المجبول بالعقائد المتزمّتة شكّل التغيير البطيء والتراكمي والتدرّجي نحو التخلّف، فحسب تعبير للمؤرّخ الفرنسي فرنان بردويل "تاريخ المدى الطويل" هذا التغيير لا يأتي بناءً على إرادة للمفكرين والمثقّفين والمشرّعين، بل نتيجة تحوّلات في النظرة حول حكم الناس، وللأسف فنَوْع الحكّام الحاليين الذين ابتلى الشعب اللبناني بهم، سيُدوَّن في سجلّهم السياسي اتمام عملية سحب لبنان من العالم الحضاري المتطوّر المتمدّن والحرّ، الى ان يُصبح مقرّاً للعالم المتخلّف، وسيّسجّل باسمهم أيضاً أكبر عملية سلب شهِدها التاريخ الانساني. فبِبُطِء وخبث، نجحوا بالاجهاز على المثقّفين والعلمانيين في الفئة اللبنانية الشيعية، مُحوّلينها مجموعة مُعبّأة بفِعل المال واستمرارية الحياة وهيبة السلاح وجمْهرة الناس خلف الزعيم المؤلّه والحزب المُبرْمج، ثم انتقلوا الى فئةٍ أخرى، متسلّلين لأجوائها من خلال ضعفائها، الأنانيين الصغار، وهي الفئة اللبنانية المسيحية، ومُستعملين الإغراءات السلطوية لأخذها بعكس مسارها الإرثي الطبيعي الغني بالفكر والثقافة والابداع والانفتاح، الى مفاهيم مُدمّرة لها واصطفافات لها خلف اللون الواحد، والنظرة الواحدة والزعيم المُعظّم.

ويلٌ لأمةٍ يعيش مثقّفوها في طوابير الذلّ، وغوغائيّوها يعبثون في مؤسسات الدولة، كما وأستعين من المفكّر والاديب اللبناني جبران خليل جبران قوله "ويلٌ لامةٍ مغلوبة تحسب القبيح فيها جمالاً"، واختم لأقول؛ هذا كان في السابق، حين تفاخرت الأمة وفئةً منها بالتأليه، وانخدعت الأمة ايضاً وفئةً أخرى منها بالتعظيم، أمّا الآن فقد بانت قباحة التعظيم والتأليه، وسقط القناع وقرب الحساب.

MISS 3