لا أحد متأكد من خطورة متغيّر "دلتا" بعد

02 : 00

يتابع فيروس كورونا تحسين نفسه مع مرور الوقت، فقد انقسم إلى مئات السلالات منذ تسلله إلى أجسام البشر، وأنتج بعضها متغيرات جديدة وسريعة الانتشار. اليوم، ظهر متغيّر "دلتا" الذي يُعتبر الأكثر قدرة على نقل العدوى ويبدو أنه يتجه إلى التفوق على جميع المتغيرات السابقة.

بدأ الفيروس يُحسّن قدرته على تحقيق هدفه الأولي بوتيرة تدريجية. ويشتبه الخبراء باحتمال أن تبلغ قدراته المُعدية ذروتها بعد فترة قصيرة. في هذا السياق تقول جيما جيوغيجان، خبيرة في علم الفيروسات التطوري في جامعة "أوتاغو": "يحاول الفيروس في جميع الظروف أن يزيد قدرته على نقل العدوى حين تسنح له الفرصة".

للوهلة الأولى، قد يبدو الفيروس الأكثر قدرة على نقل العدوى أخطر من سابقاته: قد تسمح له قدراته المُعدية المتزايدة بالالتصاق بالجسم المضيف وبلوغ مستويات مرتفعة بما يكفي للانتشار في الجسم كله. يقول بول تيرنر، خبير في علم الأحياء التطوري وعلم الفيروسات في جامعة "يال": "في هذه الحالة، قد يتوسّع نطاق العدوى وتزيد خطورتها في الوقت نفسه". إنه استنتاج بسيط وواضح. افترض بعض الباحثين أن هذه العملية تنطبق على متغيرات "ألفا" و"دلتا"، فقد برز رابط بين النوعَين وزيادة حالات الدخول إلى المستشفى. لكن لم تتأكد هذه الأنماط بشكلٍ حاسم بعد، وما من أدلة حتى الآن على زيادة خطورة فيروس كورونا تزامناً مع تطوره المستمر. الفيروسات كيانات مجهرية وهي لا تتوق إلى القتل بل الانتشار. بعبارة أخرى، لن تكون معاناة الجسم المضيف شرطاً إلزامياً لصمودها. إذا أصبح الفيروس أكثر خباثة فعلاً، يمكن اعتبار الحالة عرضية أو جزءاً من الأضرار الجانبية التي تنجم عن زيادة القدرة على نقل العدوى.

لكنّ ارتفاع قابلية نقل العدوى لا يعني زيادة خباثة الفيروسات بالضرورة. تبيّن أن عدداً كبيراً من الناس يحمل نسبة هائلة من فيروس كورونا المستجد في مسالكه الهوائية بصمت ومن دون أي آثار سلبية. حتى أن هاتين النزعتين قد تصبحان متناقضتَين أحياناً، فتضطر الفيروسات لتخفيف حدّتها بهدف تسريع انتشارها. على سبيل المثال، يبدو أن فيروس الورم المخاطي المُعدي جداً (استُعمِل عمداً مع الأرانب الأسترالية خلال الخمسينات كنوعٍ من المكافحة الحيوية) أصبح أقل خباثة مع مرور الوقت. بدل قتل الأرانب فوراً، بدأ الفيروس يطيل مدة المرض في الأجسام المضيفة وتوسّعت بذلك قدرته على نقل العدوى.

لكن يبقى فيروس الورم المخاطي استثناءً على القاعدة. من الواضح أن الفيروسات القاتلة أو الخطيرة، مثل الإيبولا أو حمى الضنك، لم تصبح أقل خطورة وتبقى نسبة انتشارها جيدة. لا سبب يدعو فيروس كورونا المستجد لترويض نفسه على الأرجح لأن معظم عملية نقل العدوى تحصل قبل ظهور الأعراض الخطيرة. لا يقتل هذا الفيروس الناس قبل أن يتمكن من نقل العدوى إلى شخص آخر. يقول براندون أوغبونو، خبير في علم الأحياء التطوري والحسابي في جامعة "يال": "إذا لم يكن مصير انتقال فيروس كورونا ودرجة خباثته على درجة عالية من الارتباط، فما من طريقة مسؤولة لإطلاق أي توقعات حول تغيّر مستوى خطورة الفيروس في الوقت الراهن".

قد يكون متغيّرا "ألفا" و"دلتا" أقوى من المتغيرات الأخرى. إذا تابعا التسبب بالأمراض وحالات الوفاة واستلزما دخول المستشفى، تستحق النزعات المسجّلة راهناً الانتباه. لكن يصعب ربطهما بشكلٍ قاطع بخصائص فيروسية محددة أو طفرات معينة لأن خباثة الفيروس بحد ذاتها مفهوم مبهم. برأي أوغبونو، يُعتبر هذا المصطلح كارثياً أصلاً، فهو يعبّر عن الضرر الذي يصيب الجسم المضيف نتيجة أحد مسببات الأمراض. لكن يبقى الضرر مفهوماً ذاتياً وهو يتوقف على الجسم المضيف وطبيعة الفيروس في الحد الأدنى. قد يعني قياس قدرة الفيروس على نقل العدوى التأكد من وجود المتغيرات ونطاق انتشارها بكل بساطة، لكنّ تقييم خباثة الفيروس يطرح سؤالاً نوعياً حول طريقة تفاعل الفيروس والجسم في مجموعة متنوعة من البيئات. إذا كانت المتغيرات أعشاباً ضارة مثلاً، ستتعلق خباثتها بحجم أضرارها وقد يتأثر الجواب بطبيعة نباتات الحديقة التي تخنقها.

تقول موغي شيفيك، عالِمة فيروسات وخبيرة في الأمراض المعدية في جامعة "سانت أندروز" في بريطانيا: "قد تكون حالات دخول المستشفى والوفاة، وهي من أفضل المؤشرات على خباثة الفيروسات في العالم الحقيقي، معايير شائكة في هذا المجال. لا تقدّم جميع الأماكن مستوىً واحداً من معايير الرعاية ولا يكون تلقي العلاجات فيها سهلاً بالقدر نفسه. قد يدخل المرضى إلى المستشفى بسبب شكلٍ أكثر خطورة من الفيروس أو نتيجة عوامل خطر جعلتهم أكثر ضعفاً منذ البداية. بدأت المناعة ضد فيروس كورونا المستجد تتراكم مع مرور الوقت أيضاً، ما يؤثر على قابلية تناقل العدوى. وتبقى معظم الاضطرابات التي يسببها فيروس كورونا خارج أسوار المستشفيات. قد تكون صعوبة مقارنة الجماعات السكانية جزءاً من السبب الذي يفسّر النتائج المتناقضة التي توصلت إليها دراسات مختلفة حاولت تحليل حدّة المتغيرات. يُعتبر تصاعد معدلات الإصابات عاملاً مؤثراً أيضاً: حين يمرض عدد كبير من الناس فجأةً (بسبب متغيّر أكثر قدرة على نقل العدوى مثلاً)، لا مفر من أن تصبح المنشآت الطبية مكتظة، فتزيد حالات الوفاة المحتملة حتى لو لم يكن الفيروس بحد ذاته أكثر خطورة. يقول فينيت ميناشري، عالِم فيروسات متخصص بحالات كورونا في الفرع الطبي من جامعة "تكساس": "علم الأوبئة مجال صاخب جداً، لذا يصعب إطلاق استنتاجات جازمة. يتفق الباحثون عموماً اليوم على اعتبار "ألفا" أخطر من المتغيرات الأخرى. لكنّ الأخبار المنتشرة حول متغيّر "دلتـــا" لا تزال غير مؤكدة.

توضح ريبيكا هونس، عالِمة فيروسات في مستشفى "سانت جود" البحثي للأطفال: "هذا الوضع يزيد الأعباء على الباحثين، فلا يعود تصنيف المتغيرات التي تصيب البشر بدقة كافياً، بل يصبح تحديد مواصفات الأشخاص الأكثر عرضة لها ضرورياً أيضاً. ثمة تداخل بين ثلاثة عوامل متلازمة: الجسم المضيف، والعنصر المؤثر، والبيئة المحيطة. ولا يمكن تجاهل أي فرع منها.

لا شك في أن فيروس "كوفيد - 19" سيصبح مختلفاً في المستقبل. لكن لن تتوقف علاقتنا به على تقلباته الجينية حصراً: من المتوقع مثلاً أن تؤثر الدفاعات المناعية التي نطورها ضد فيروس كورونا الجديد على مسار تطوره.

في ظل زيادة كميات اللقاحات في أجزاء عدة من العالم وتراجع الأشخاص المعرّضين لالتقاط العدوى، بدأ الفيروس يصل إلى طريق مسدود ويتفكك ببطء. توضح شيفيك: "من خلال تكثيف حملات التلقيح، يتراجع احتمال ظهور متغيرات جديدة". برأي جيني لافين، عالِمة أوبئة وفيروسات في جامعة "إيموري"، قد تصبح هذه العدوى في نهاية المطاف مجرّد مصدر إزعاج بقدر فيروسات كورونا المشابهة للزكام العادي حين تزداد قوة دفاعاتنا الجماعية، ما يعني ظهور أعراض عابرة وبسيطة لدى معظم الناس إذا كانت أجسامهم قد تعرّفت على نسخة معينة من مسببات المرض سابقاً. لهذا السبب، يجب أن يصبح الحصول على اللقاحات متاحاً لجميع الناس بالتساوي كي لا تظهر معاقل جديدة للطفرات في الأماكن التي تفتقر إلى الحماية.

إذا تُرِك الفيروس على سجيته، قد ينتهي بكبح نفسه. لكنه لا يميل إلى فعل ذلك بالضرورة. يخطئ من يراهن على ميل الفيروس إلى تقليص خطورته من تلقاء نفسه. الأمر أشبه بالانتظار إلى أن يُضعِف العدو هجومه تلقائياً. تقضي أفضل خطوة إذاً بمضاعفة دفاعاتنا، وهي أدوات نعرفها جيداً.

برز تحذير مثير للاهتمام عند تطوير اللقاحات. قد لا تكون اللقاحات بحد ذاتها السبب وراء الطفرات الجديدة من الفيروس، لكنّ المناعة التي توفرها قد تدفع الفيروس نحو مسارات مختلفة، لذا يجب أن نتابع مراقبة تحركاته. تطوّر لقاح غير مثالي لإعاقة مرض ماريك الذي يصيب الدجاج، لكنه زاد قدرة أحد الفيروسات على نقل العدوى وجعل المرض أكثر خباثة. نتيجةً لذلك، أصبح مُسبّب المرض أكثر خطورة على الطيور التي لا تتلقى اللقاح. (ما من أدلة حتى الآن على حصول الأمر نفسه مع فيروس كورونا ومجموعة اللقاحات الممتازة التي تُستعمل في الوقت الراهن، لكن سيبقى الفيروس مصدر تهديد كبير على غير المحصّنين ضد العدوى). في الوقت نفسه، قد تؤدي الضغوط التي تفرضها اللقاحات إلى انتشار متغيرات تجيد التهرب من الدفاعات البشرية، حتى أنها قد تُربِك جزءاً من الجرعات المستعملة. سبق وأثبتت مجموعة من المتغيرات، بما في ذلك "دلتا"، قدرتها على التهرب من بعض الأجسام المضادة. تقول شيفيك إن هذه الخاصية تُسهّل على الفيروس دخول الجسم المضيف.

خلال السنوات المقبلة، قد نضطر على الأرجح لتعديل تركيبات لقاحاتنا لمواكبة الفيروس المتبدّل سريعاً. لكن يستطيع كل لقاح نبتكره أن يكبح المسار الذي يسلكه الفيروس. من المعروف أن الجينومات الفيروسية لا تستطيع أن تتحول إلى ما لانهاية، فهي قادرة على تغيير المادة الأولية التي تحصل عليها لكنها تعجز عن إحداث تغيرات معينة من دون إضعاف قدرتها العالية على الانتشار. مع مرور الوقت، قد نتمكن من استعمال جرعات اللقاح بطريقة استراتيجية، فنُجبِر فيروس كورونا المستجد على سلوك مسارات تطورية متوقعة. يستطيع العلماء أن يفرضوا سيطرتهم بهذه الطريقة. إذا كنا مضطرين للتعايش مع هذا الفيروس لفترة طويلة، ستكون اللقاحات مفتاح الحل لبناء علاقة مستدامة معه حيث نستطيع قَلْب الطاولة عليه. بعبارة أخرى، يمكننا أن نجعل المسار التطوري للفيروس يتجاوب معنا بدل أن نتفاعل نحن مع الفيروس.