عيسى مخلوف

وقفة من باريس

المنفى والحرب والسلام الكاذب

10 تموز 2021

02 : 00

المخرج المسرحي نبيل الأظن

صدرت مؤخراً في باريس طبعة جديدة من كتاب "الأُمّيّ" للكاتبة السويسريّة من أصل مَجَريّ أغوتا كريستوف، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيلها. يحكي هذا الكتاب أثر المنفى في نفسها بعد أن هربت إلى سويسرا، العام 1956، وهي في الحادية والعشرين من عمرها، إثر دخول الدبّابات السوفياتيّة بودابست. من خلال سيرة حياتها وتجربتها، ترصد الكاتبة أيضاً المآسي العاديّة والعبثيّة في ظلّ الحرب، كما ترصد معنى أن يُقتلَع المرء اقتلاعاً من أرضه، ويصبح فجأةً بعيداً عن نفســــه وعمّن يحبّ.

صدور هذا الكتاب اليوم في باريس أحالني إلى تجربة المخرج اللبناني الراحل نبيل الأظن مع المنفى، ككلّ الذين خرجوا من لبنان الذي لم تتوقّف فيه الحرب منذ قرابة خمسة عقود تخلّلتها فترات من السلام الكاذب. في العام 2014، قرأ الأظن كتاب أغوتا كريستوف ووجد فيه ملامح من نفسه وعمل على تحويله عملاً مسرحيّاً قدّمه على خشبة مسرح "لوديشارجور" الباريسي، وقامت بتأدية الدور الممثّلة الفرنسيّة كاترين سالفيا. يلامس هذا العمل، بالنسبة إلى الأظن، كلّ من يضطرّ إلى اختيار الهجرة هرباً من الحرب ليجد نفسه "في علاقة جديدة بين لغته ولغة الآخر التي ستصبح، مع الوقت، جزءاً من ثقافته وهويّته غير المرتبطتين بزمان ومكان"، على حدّ تعبيره.

هذا الشعور تَمَثَّلَ في تجربته المسرحيّة بشكل عامّ، وخصوصاً في إخراجه مسرحيّة "مهاجر بريسبان" للشاعر اللبناني باللغة الفرنسيّة جورج شحادة، وكنتُ نقلتُها إلى اللغة العربية وقدّمها نبيل في سياق "مهرجانات بعلبك الدوليّة"، صيف 2004. كما تَمَثَّل لاحقاً، في العام 2015، في احتفالية "إلك يا بعلبك" التي كانت تحيّة إلى مدينة الشمس وجمعت شعراء وفنّانين وموسيقيين يعيش معظمهم في باريس، وهم- بالإضافة إلى طلال حيدر وفاديا طنب الحاج ورفيق علي أحمد وغدي الرحباني وهاروت فازليان وأعضاء فرقة دبكة "المجد" البعلبكيّة– أدونيس وإيتل عدنان ووجدي معوّض وصلاح ستيتيّة وفينوس خوري غاتا وعبد الرحمن الباشا ومرسيل خليفة وبشارة الخوري وناجي حكيم وزاد ملتقى وغبريال يارد وابراهيم معلوف وكاتب هذه السطور. لقد عرف نبيل الأظن كيف يجمع في هذا العمل الاحتفالي الجناحين المتباعدين للكيان المقيم والمغترب. كانت الظروف الأمنيّة في تلك الفترة صعبة ومعقّدة للغاية، إذ أعقبت عمليّة خطف الجنود اللبنانيين في بلدة عرسال، ومع ذلك أصرّ المشرفون على المهرجان إقامة الحفل في بعلبك. وكان نبيل الأظن يشعر يومذاك بأنه يعيش المغامرة الأجمل في حياته، كما عبّر أمامنا أكثر من مرّة.

في اتّصالنا الهاتفيّ الأخير، قال نبيل: "لم يعد في استطاعتي أن أتحمّل". وقبل أيّام قليلة، كان لا يزال يتحدّث عن مسرحيّة "يوليوس قيصر" لشكسبير، المسرحيّة التي كان يزمع إخراجها وتقديمها مع مجموعة من الطلبة الجامعيّين في بيروت. كان يبحث عن وميض أمل في نظرات الطبيب الذي يُعاينه، كلّ صباح، في المستشفى. وعندما يفقد أمله ويخفت صوته، كنتُ أحاول، بشتّى السُّبُل، أن أجعله يصدّق أنّ الطّريق لم ينتهِ بعد. بشتّى السُّبُل كنتُ أحاول، وأنا غير مُصَدِّق. بل كنتُ، في قرارة نفسي، أتمنّى له الموت، حتّى لا أراه يتعذّب كما كان يتعذّب، وحتّى يرتاح من الأوجاع، النّفسيّة قبل الجسديّة، ومِن تَرقُّب لحظة الموت بعينين مفتوحتين، هذا التّرقُّب الأبشع من الموت، وهو الّذي دفع إلى الصّرخة المدوّية الّتي أطلقتها زوجة أيُّوب: "العَنهُ ومُت". في الأسابيع الأخيرة، قال لي: "صرتُ أخاف أن أكون وحدي في البيت". وهل هناك أفدح من أن يخاف الإنسان من نفسه ومن جسده؟

حين زارت أغوتا كريستوف بلدها ذات يوم، عبّرت عن مشاعرها في إحدى نصوصها المسرحيّة بالقول: "عدتَ لتجد مناخ الزمن الماضي، لتجد شبابك وأحلامك وأوهامك". نبيل الأظن لم يتسنّ له أن يعود، وطالما كان يحلم بالعودة ليرأب الصدع الذي في ذاته. ولو كان بيننا اليوم لأدرك أنّ ثمّة أوطاناً ليست أوطاناً بالفعل، بل هي التجسيد الحقيقيّ للمنافي، وأنّ كلّ من يولد فيها غريب ومنفيّ بالضرورة، كما الحال الآن في بلده لبنان الذي تحتلّه من الداخل والخارج حفنة من اللصوص والقَتَلة.


MISS 3