عيسى مخلوف

وقفة من باريس

تَفاقُم الجوع

17 تموز 2021

02 : 00

لوحة لبيكاسو

يتّضح يوماً بعد يوم أنّ محاربة الوباء تحتاج إلى مزيد من الجهود، ومزيد من التضامن على المستوى العالمي، ومزيد من الوقت. أمّا آثاره السلبيّة فلن تتوقّف فجأةً بعد التخلّص منه. من هذه الآثار أنّ الجائحة تهدّد بتفاقم الجوع في العالم لفترة طويلة. وهذا ما أشارت إليه مؤخّراً منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة التي اعتبرت أنّ نسبة الذين عانوا من الجوع في العالم خلال العام 2020 تراوحت بين 720 و811 مليون شخص، وهذا ما سيؤخّر، مرّةً أخرى، تحقيق هدف الأمم المتحدة المتمثّل في القضاء على الجوع بحلول العام 2030. وحتّى إن لم يأتِ الوباء، لم يكن بالإمكان تحقيق هذا الهدف المنشود الذي يتأجّل من عقد إلى آخر لأسباب سياسية واقتصادية باتت معروفة، لأنّ من يتحكّم بمقدّرات الأرض لا تعنيه إعادة النظر في نظام الغذاء العالمي ككلّ.

إذا كانت أزمات الغذاء قد رافقت تاريخ البشريّة من جيل إلى جيل، فإنّ الوباء ضاعف من حدّتها الآن وجعلها تتفاقم بسبب التدابير التي تقيّدت بها دول العالم لمواجهة الجائحة وتركت أثرها على مزارعي العالم الثالث والعمّال الموسميّين بصورة عامّة. فبالإضافة إلى الذين يعيشون حالة من الفقر المدقع، هناك الذين لا يتمكّنون من تأمين الغذاء الكافي على مدار العام، وقد بلغ عددهم خلال السنة الماضية 2،37 مليار شخص، أي ما يوازي ثلث سكّان العالم، وهم يتوزّعون خصوصاً بين آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبيّة. القارة الأفريقية تدفع الثمن الأغلى لهذه الآفة، والشعب الأفريقي، بنسبة 56 في المئة منه، يعاني من انعدام الأمن الغذائي.

لكن، هل من حاجة إلى التذكير بأن ليس ثمّة عالم واحد في العالم؟ في موازاة عالم الفقراء المُعدمين الذين يفتقدون إلى كسرة خبز، هناك عالم الأثرياء الذين لا تتّسع لهم أرض ولا سماء. منذ أيام قليلة، انطلقت أوّل رحلة سياحيّة مأهولة إلى "حافة الفضاء" وعلى متنها الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، تمهيداً لرحلات تجاريّة منتظمة بدءاً من العام المقبل. ويتسابق الأثرياء منذ الآن لخوض هذه المغامرة بسعر يتراوح بين مئتين وثلاثمئة ألف دولار، للتمتّع بزهاء أربع دقائق من انعدام الوزن في رحلة لا تستغرق أكثر من ساعة.

على هذه الأرض، حيث لا يزال يموت طفل من الجوع كلّ خمس ثوان، هناك من يتمكّن من تحقيق ثروات خياليّة تجعله قادراً على شراء أغلى ساعة يد في العالم، مرصّعة بالماس، ويبلغ سعرها 55 مليون دولار، أو الذهاب إلى "فندق 13" في ماكاو حيث يصل سعر الإقامة في الليلة الواحدة مئة ألف دولار.

"ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع"، قال الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب في قصيدته "أنشودة المطر". في العراق وفي أماكن كثيرة من العالم حيث المائدة مفتوحة لقسم من الناس دون غيرهم، وحيث لا مكان للعراة والحفاة والجَوعى الذين، إن أكلوا، لا يأكلون حدّ الشبع.

في القرن التاسع عشر، ظنّ بعض المفكرين والفلاسفة أنّ الثورة العلمية والدخول في العصر الصناعي ستخلّصان البشريّة من أحد أمراضها القديمة: الجوع. غير أنّ هذا التوقُّع لم يتجسّد فعلاً، وظلّ حلماً ومرتجى، ولم يكن امتلاك وسائل الإنتاج خيراً لجميع البشر، في ظلّ الجشع والاستغلال واللامساواة والإقصاء.

أمّا لبنان، ومع وصوله إلى أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، فأصبح في عداد الدول التي يواجه أهلها الجوع. لكنّ الجوع في لبنان من طبيعة مختلفة، سياسيّة واقتصاديّة على السواء. وهو جزء من سلسلة الانهيارات التي وصل إليها على جميع الأصعدة، ما دفع وكالات الإغاثة إلى التحذير من أنّ الجوع قد يصبح هو القاعدة، خصوصاً بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت والذي دمّر أجزاء كبيرة من العاصمة اللبنانية، بسبب عصابة حاكمة تعاطت مع البلد كغنيمة حرب، وقبلت أن تتاجر به وبشعبه، وحوّلته إلى خراب، في حين أنّ كلّ من يرفع صوته ضدّ الظلم يُتّهم بالعمالة للخارج، يُهجَّر أو يُقتل.


MISS 3