عيسى مخلوف

الرقص على الحافّة

24 تموز 2021

02 : 00

يتغيّر العالم في اتجاهات مختلفة مع التقدّم التقني والتكنولوجي والتحــــوّل الجذري الذي يُحدثه هذا التقدّم في المجتمع. الكمبيوتر أحد مظاهر التقدّم ولقد أصبح وسيلة أساسيّة نلجأ إليها للكتابة والقراءة والبحث والحفظ، كما أصبح الآيباد أو التابلت أو الموبايل مصغَّراً للكون في قبضة اليد. هذه الأدوات غيّرت أيضاً طبيعة علاقة الإنسان بنفسه وبما ومن حوله بعدما دخلت التقنيّات الرقميّة الجديدة جميع المجالات والقطاعات.

للتّقدّم العلمـــــــيّ والتّكنولوجيّ وجهان: مضاعفة إمكانات البناء مقابل مضاعفة إمكانات الهدم! والوجه الثاني يضع العالم أمام أخطار لا سابق لها. لقد حقّقت الوسائط الرقمية الجديدة إمكانات للتواصُل لم يعرفها البشر من قبل، كما شكّلت وسيلة هائلة للاكتشاف والاطلاع والمعرفة. لكن، في المقابل، وضعتنا أمام تحدّيات كبيرة، وكشفت إلى أيّ مدى ترتبط الثورة العلميّة بكيفيّات استعمالها والأهداف المتوخّاة منها. علينا ألّا ننسى مثلاً دَور شركات ضخمة، منها "غوغل" و"فيسبوك" في استعمالنا بينما نظنّ أنّنا نحن من يستعملها. في الواقع، نحن أدوات صغيرة في جهاز رقميّ خارق، وفي أيدي مؤسّسات ضخمة توظّفنا، من دون أجر، لنمنحها المعلومات اللّازمة عن حياتنا الخاصّة وعن آرائنا ومواقفنا، فتفرزها وتوضّبها لتبيعها إمّا لأغراض تجاريّة أو لأجهزة المراقبة والتّجسّس وتعزيز قوّة الديكتاتوريّات الرّقميّة. إضافة إلى ذلك، تعمل تلك الشّركات على تغيير ردود أفعالنا وخلق مشاعر جديدة عبر تطبيقاتها، فتتلاعب برغبات النّاس وحاجتهم إلى الظّهور وحصد اللّايكات، وتضعهم في سباق محموم مع أنفسهم ومع الآخرين.

أحد أكثر المواضيع المطروحة في الإعلام الغربي هذا الأسبوع يتمحور حول عمليات قام بها "برنامج التجسّس "بيغاســوس" القائم على تقنيات متطوّرة تسطو على الهواتف من دون علم أصحابه، وتمتصّ كلّ ما تحتوي عليه من رسائل وإيمايلات وصور فوتوغرافيّة وعناوين وأرقام هواتف خاصّة، مع كلّ ما يعني ذلك من استباحة لحرية الإنسان وحقوقه. برنامج التجسّس هذا صُمِّمَ من قبل شركة "إن إس أُو" الإسرائيليّة التي تبيعه حصريّاً للدول. ولقد أثارت هذا الموضوع سبع عشرة وسيلة إعلامية منها صحيفة "لوموند" الفرنسية - بالاتفاق مع فريق "القصص المحظورة" وبدعم من "منظّمة العفو الدولية"، بعدما كشفت من خلال تحقيق استمرّ العمل عليه ستّة أشهر أنّ هناك عشرات ألوف الهواتف تخضع للمراقبة منذ العام 2016 لصالح عدد من الدول، كما كشفت أنّ هذه الأداة التي تهدف "رسميّاً" إلى مكافحة الإرهاب تُستخدم على نطاق واسع للتجسّس على صحافيين ومحامين وأطبّاء ومعارضين سياسيين ونشطاء حقوق الإنسان، أي أنّ هذا السلاح الرقمي موجّه أساساً ضدّ المجمع المدني وضدّ المدنيين وأفكارهم وحياتهم الخاصّة، والهدف منه كذلك تخويف الناس ودفعهم إلى عدم التفكير والتعبير، أي إلى الصمت التامّ. وقد ذهب التحقيق المتعلّق بالمراقبة والتجسّس أكثر من ذلك، ولاحظ أنّ بعض النشطاء من الذين لا يملكون هواتف محمولة يخضعون هم أيضاً للتجسّس، ومنهم دالاي لاما الذي يمثّل أعلى سلطة دينيّة عند البوذيين في التيبت، وهو القائل إنّ "مسؤولية تحقيق عالم أفضل تقع على عاتـــق كلّ إنسان".

هذا هو العالم الجديد (عالم التحكّم وممارسة السلطة) مع الإمكانات المتطوّرة المتاحة له، وهي إمكانات تستطيع اقتناءها الدول كافّةً. وكما سبق أن ذكرنا: مع تطوّر العلم والتقنيات والتكنولوجيا الرقميّة تقفز البشريّة خطوات كبيرة إلى الأمام، وتحقّق إنجازات ضخمة في مجالات كثيرة، لكنّ هذا التطوّر يساعد أيضاً، وفي الوقت نفسه، على فرض المزيد من المراقبة، وعلى صناعة الأسلحة الأكثر فتكاً ممّا يسمح للبعض تعزيز تصوّرهم القاتم للعالم وجعله، أكثر فأكثر، جحيماً يضاهي في قساوته الجحيم الذي وصفتــه الأديـان التوحيديّـة والكتب السماويّة.