التسلّح النوويّ إلى الواجهة مجدّداً؟

11 : 21

عند أخذ مختلف العوامل المؤثرة بالاعتبار، يتّضح أن الجهود الأميركية لمنع الانتشار النووي كانت ناجحة بدرجة ملحوظة. لا يُطوّر أي بلد جديد أسلحة نووية على ما يبدو، مع أن البعض يتمتع بالإمكانات اللازمة للقيام بذلك، على غرار إيران. فضّلت معظم البلدان عدم بناء رؤوسها الحربية الخاصة، لأن المعاهدات الدولية فرضت عوائق قانونية وسياسية ومعيارية على جهود تصنيع القنابل الذرية من جهة، ووسّعت الولايات المتحدة التزاماتها الأمنية مع حلفائها حول العالم من جهة أخرى. كذلك، أوضحت واشنطن وشركاؤها أن كل من يُقبَض عليه وهو يُصنّع أسلحة نووية سيواجه عقوبات صارمة.

صحيح أن الانتشار النووي بقي تحت السيطرة حتى الآن، لكن لا شيء يضمن استمرار هذا الوضع إلى ما لانهاية. بدأ النظام العالمي والدور الأميركي فيه يتغيران. وقد لا تصمد المعاهدات والالتزامات الأمنية وأوراق الضغط التي يرتكز عليها منع الانتشار النووي في وجه هذه التحولات. لذا يجب ألا تتفاجأ واشنطن إذا تغيّر المشهد النووي قريباً (وقدرتها على التحكم به) واتخذ منحىً سيئاً.

لم يُطوّر إلا عدد ضئيل من حلفاء الولايات المتحدة أسلحة نووية لأنهم يتكلون بدرجة كبيرة على الأميركيين وترسانتهم الضخمة. في المقابل، استغلت واشنطن اتكال تلك البلدان على قوتها العسكرية، وأشكال أخرى من المساعدات الأميركية العسكرية والاقتصادية والتقنية، واستعملته كورقة ضغط في حال كشف أي منها عن طموحات نووية خاصة به. كانت ورقة الضغط تلك أساسية لمنع تايوان وكوريا الجنوبية وألمانيا من التسلح نووياً.

كذلك، تدرك البلدان التي توشك على اكتساب تلك الأسلحة، منذ نهاية الحرب الباردة تحديداً، أن الولايات المتحدة تتمتع بالقدرة اللازمة على إحداث أضرار اقتصادية مدمّرة في البلدان التي تصرّ على تطوير الأسلحة. فرضت واشنطن في الماضي عقوبات اقتصادية محلية قاسية وأخرى أقرّتها الأمم المتحدة ضد العراق وليبيا وكوريا الشمالية وإيران لإقناع قادتها بأن كلفة برامجهم النووية تتفوق على منافعها. في ما يخص ليبيا وإيران، أدت العزلة المترتبة عن العقوبات دوراً مؤثراً لدفعهما إلى الحد من برامجهما أو إلغائها بالكامل مقابل رفع العقوبات.

بما أن منع الانتشار النووي ارتكز بشكلٍ أساسي على دور الولايات المتحدة القيادي وتحالفاتها وقدرتها على تنفيذ تعهداتها، تعرّضت هذه المساعي لضغوط هائلة خلال عهد ترامب المضطرب. أنتج هذا الوضع، تزامناً مع تنامي التهديدات العالمية (روسيا، الصين، كوريا الشمالية، وحتى شبح إيران التي لا يمكن ردعها الآن)، خليطاً متفجراً من الضغوط التي تدفع البلدان الصديقة إلى التفكير بالتسلح نووياً.

لطالما شعر حلفاء الأميركيين بالقلق من أن تتخلى عنهم واشنطن، لكن، أضعف ترامب المصداقية الأميركية بدرجة غير مسبوقة نتيجة أفعاله. فقد أوضح أنه يعتبر نظام التحالفات الأميركي عبئاً، لا ميزة، وشكّك بشكلٍ متكرر بنزعة الولايات المتحدة إلى تنفيذ التزاماتها الدفاعية إذا تعرّض حلفاؤها للهجوم. حاول الرئيس الأميركي استعمال القوة لدفع البلدان التي تستضيف القوات الأميركية إلى ضخ أموال إضافية "للتعويض" عن الولايات المتحدة التي تضمن لها الأمن، ولطالما أشاد بأمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والدكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون، أي قادة الأنظمة التي صُمِّمت التحالفات الأميركية للتصدي لها.




امتنع حلفاء الولايات المتحدة حتى الآن عن محاولة تصنيع قنبلة ذرية. ساد جدل عن هذا الموضوع حديثاً في ألمانيا، ولا يزال دعم الرأي العام لبرنامج الأسلحة النووية كبيراً في كوريا الجنوبية، لكن ما من دعوات واسعة للانضمام إلى النادي النووي في أي بلد منهما. مع ذلك، يصعب أن نتأكد من عدم حصول أي مناقشات جدّية وراء الأبواب المغلقة. على البلدان التي تفكر بالتسلح نووياً أن تراهن بقوة على بقاء الولايات المتحدة شريكة متوقعة وموثوقاً بها مستقبلاً. لكن تَقِلّ المؤشرات التي تثبت هذه الصفات في سلوك واشنطن راهناً.

واشنطن إلى أين؟

في الحالات العادية، يتعين على أي بلد أن يفكر جدياً بالعقوبات المترتبة عن تطوير أسلحة نووية. في النهاية، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ اقتصادي كبير وتستطيع استعماله لتقديم الحوافز أو فرض عقوبات تمنع أي نشاطات تعزز الانتشار النووي. لكن حتى تلك القدرة بدأت تتصدّع.

في المقام الأول، تخسر العقوبات الاقتصادية المفروضة على مكتسبي الأسلحة النووية المرتقبين قوتها حين تُطوّر البلدان وسيلة للالتفاف على هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي. دفعت الخلافات مع واشنطن حول السياسة الإيرانية مثلاً بالدول الأوروبية إلى التفكير بكيفية الاحتماء من العقوبات الأميركية والتحايل عليها. وقد أثبتت السرقة الإلكترونية لمليارات الدولارات من البنوك وتبادل العملات المشفّرة في كوريا الشمالية أن العقوبات شبه العالمية على الصادرات لم تعد طريقة فاعلة لقطع إيرادات البلدان.

ثمة فرق بين فرض "ضغوط قصوى" على كوريا الشمالية التي أصبحت أصلاً دولة منبوذة من جهة، وفرض عقوبات كافية على أنظمة اقتصادية كبرى أو حلفاء أساسيين لدرجة أن تتفوق أضرار الترسانة النووية على منافعها، وإقناع المجتمع الدولي بدعم تلك الجهود من جهة أخرى. إذا عاقبت واشنطن فريقاً عالمياً مهماً مثل اليابان، ستجازف في الوقت نفسه بتضرر مصالحها الاقتصادية والأمنية.

لن تكون معاقبة الحلفاء مجرّد مسألة معقدة، بل إنها تخفي أهدافاً أخرى أيضاً. هذا ما دفع واشنطن إلى التصرف بحذر حين حاولت كبح البرنامج النووي في إسرائيل خلال الستينات وفي باكستان خلال الثمانينات. لكن فشلت تلك المقاربات كلها. وفي ظل احتدام المنافسة بين القوى العظمى اليوم، قد تتجاهل واشنطن مجدداً المخاوف المرتبطة بالطموحات النووية لدى شركائها وتُركّز في المقابل على هدف أهم مثل مجابهة روسيا أو الصين.

على صعيد آخر، ربما يسمح الإصرار الأميركي المتزايد على تقاسم الأعباء للحلفاء بتطوير إمكانات مفيدة لتصنيع أسلحة نووية أو يُشجّعهم على هذه الخطوة. قد تستأنف كوريا الجنوبية مثلاً مساعيها لتطوير غواصة نووية، ما يقوي جهود الحلفاء للتصدي لكوريا الشمالية. حتى أن هذه الخطوة تشكّل مبرراً لتخصيب اليورانيوم.

تحديات كبرى في الأفق

من المتوقع أن تضعف قدرة واشنطن على منع الانتشار النووي بدرجة إضافية نتيجة تنامي الأنظمة الاستبدادية عالمياً. وصل قادة شعبويون (تتوقع الأبحاث أن يحاولوا على الأرجح اكتساب أسلحة نووية) إلى السلطة في بلدان حلف الناتو، على غرار تركيا والمجر (اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حديثاً أن عجز تركيا عن تطوير أسلحة نووية وضع غير منصف). كذلك، هدد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان (حليف مهم آخر للولايات المتحدة) باكتساب أسلحة نووية إذا اكتسبتها إيران. قد يسمح رحيل ترامب من السلطة بتبديد جزء من هذه النزعات السلبية. لكن ما من حلول سياسية بسيطة لمشاكل أخرى، مثل تغيّر وجهة العالم وابتعاده عن النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة. يتعين على واشنطن أن تبتكر طريقة جديدة للتفكير بأنواع التحديات التي تواجهها في مجال الانتشار النووي خلال العقود المقبلة، وأن تُقيّم أوراق الضغط التي تملكها وكيفية استعمالها على أرض الواقع. لا يمكن اعتبار واشنطن عاجزة بأي شكل، لكن يجب أن تدرك أن التحولات الجيوسياسية بدأت تنسف عقوداً من الجهود الرامية إلى منع الانتشار النووي.


MISS 3