عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الاقتراب من جبل الجليد العائم

31 تموز 2021

02 : 00

التغيّرات المناخيّة التي يشهدها العالم الآن، والتي تتمثّل بزيادة الكوارث الطبيعيّة واشتداد الحرارة والفيضانات والأعاصير والحرائق في أماكن كثيرة من العالم، هي إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه البشريّة في هذا القرن والتي تعرّضَ الكوكب لمخاطر لا سابق لها. طريقة مواجهة هذه المعضلة ستحدّد مستقبل الإنسان على الأرض. ولقد حذّر العلماء في دراسة نشرتها مجلّة "بيوساينس" العلميّة (الصادرة هذا الأسبوع عن المعهد الأميركي للعلوم البيولوجيّة) من الانزلاق نحو المجهول بعد أن فشلت حكومات الدول العظمى في التصدّي لهذا الموضوع. وقد أكّد فشل المؤتمرات التي تمحورت حول المناخ والبيئة في العقدين الماضيين غلبةَ المصالح السياسيّة والاقتصاديّة على المبادئ والقيم الإنسانيّة، وعلى خلاص الأرض ومن عليها.

منذ أكثر من ثلاثين سنة والعلماء يحذّرون، لكنّهم يشبهون في نداءاتهم المتكرّرة واليائسة حفنة من العقلاء التائهين في البراري، يصرخون وحدهم وما من صدى لصوتهم ولتحذيراتهم. كأنّ قادة السفينة المجانين غير آبهين بجنوحها المُحتمَل، طالما أنّ أكثر ما يعنيهم هو تسجيل انتصارات أنانيّة محكومة بالتسلّط والاستئثار والجشع. وبنتيجة هذه السياسة القائمة على التسيُّد والربح، هنا والآن، يستمرّ استئصال الغابات، وخصوصاً غابة الأمازون، كما يتواصل ذوبان الجليد القطبي بوتيرة متزايدة ممّا قد يؤدّي إلى نقطة اللاعودة. هذه المرّة أيضاً، يشير العلماء في دراستهم، ما سبق أن أشار إليه أربعة عشر ألف عالِم ممّن دعوا إلى إعلان حالة طوارئ مناخيّة، إلى الإسراع في تبنّي حلول عدّة منها: الحدّ من التلوّث، واستعادة عافية النظام البيئي، والتركيز على نُظُم غذائيّة نباتيّة، والابتعاد عن سياسات النموّ السائدة.

مع تراجُع انبعاث ثاني أُكسيد الكربون في فترات الحَجْر التي فرضها الوباء، وكذلك مع التباطؤ الصناعي وتوقُّف الكثير من الأنشطة الاقتصادية، سجّلت مصلحة مراقبة تغيُّر المناخ الأوروبيّة - في تقرير يختصر الأحوال البيئيّة للعام الماضي – استمرارَ ارتفاع درجات الحرارة، خصوصاً في خطوط العرض الشماليّة. وأكّدت النشرة السنوية للمنظّمة العالمية للأرصاد الجوّية التابعة للأمم المتحدة أنّ التراجع في انبعاثات الكربون لن يؤدّي إلى تقلّص مستويات تركيزه في الغلاف الجوّي لأنّ هذه المستويات هي نتيجة المجموع التراكمي للانبعاثات السابقة والحاليّة والتي ضاعف منها استغلال مصادر الطاقة الأحفوريّة وإنتاج الإسمنت وإزالة الأحراج والغابات. ومن شأن ذلك أن يجعل الانبعاثات تستقرّ قروناً عدّة في الغلاف الجوّي وفي المحيطات والبحار.

بحسب منظّمة الصحّة العالميّة، هناك أكثر من سبعة ملايين شخص في العالم (بينهم أربعون ألف شخص في فرنسا وحدها) يموتون سنوياً بسبب التعرّض لجسيمات دقيقة في الهواء الملوّث، وهذا ما يضاهي عدد الوفيّات الناتجة عن الإدمان على التدخين، وما يتفوّق بشكل كبير على نسبة ضحايا وباء كورونا. وفي هذا السياق، صرّح عالم المناخ البلجيكي جان باسكال فان إيبيرسيل قائلاً إنّ جزءاً كبيراً من الكوكب معرَّض لأن يصبح غير صالح للسكن ما لم يتمّ احتواء انبعاثات الغازات السامّة.

الدراسة التي نُشرَت هذا الأسبوع في مجلّة "بيوساينس" العلميّة هي بمثابة صرخة استغاثة، بل نداء أخير يطلقه علماء البيئة قبل ارتطام السفينة بجبل الجليد العائم، الجبل المهدّد هو نفسه بالتفكّك والذوبان، وهذا الانحسار المتسارع يُنذر بانهيار النظام المناخي بأكمله. فهل ثمّة من يصغي إلى صرخة الاستغاثة هذه وسط صخب غرائز السياسة والحسابات الاقتصاديّة وطريقة تعاملها مع الأرض والبيئة والإنسان؟ هل من أمل في إصلاح سياسي واقتصادي سريع وعميق؟

تلاحظ المنظّمات والجمعيّات المدافعة عن البيئة والمناخ أنّ حكومات الدول غير مهيّأة، في اللحظة الراهنة، للشروع في الإصلاح على الرغم من حالة الطوارئ المُعلنة، وهي ليست في المسار الصحيح للحدّ من الاحتباس الحراري. ومع ذلك، يبقى هناك بريق أمل يطالعنا في خارطة الطريق التي قدّمتها المفوّضية الأوروبيّة في شهر تمّوز الماضي في مدينة بروكسيل والهدف منها تحقيق "الحياد الكربوني" في العام 2050 من خلال خفض معدّلات ثاني أُكسيد الكربون بنسبة 55 في المئة في العام 2030. ثمّة من يراهن على هذه المبادرة التي قد تشكّل نواة لحلّ عالمي، وثمّة من يرى أنّ الكلمة الفصل تعود للولايات المتحدة الأميركيّة والصين إذا كانت الأرض لا تزال تعني لهما شيئاً.


MISS 3