بعد هجوم 11 أيلول... إخفاق أميركي شبه كامل

02 : 01

أصبح هجوم 11 أيلول 2001 الحدث المفصلي الذي أطلق جميع التطورات الأخيرة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، فبدّل التحالفات العالمية، وأعاد تنظيم الحكومة الأميركية، حتى أنه غيّر حياة الناس اليومية. انتشرت نقاط التفتيش الأمني وأجهزة قياس المغناطيسية داخل المباني، وتكاثرت الحواجز الواقية على طول الشوارع الأميركية. مع حلول الذكرى العشرين لهجوم 11 أيلول، لا يمكن تجنب هذا الاستنتاج المؤسف: لقد أخفقت الولايات المتحدة، حكومةً ووطناً، في معظم ردودها على ما حصل.

بدأت إخفاقات البلد خلال الساعات الأولى التي تلت الاعتداءات واستمرت حتى هذا اليوم. يسهل علينا الآن أن نرصد الإخفاقات بعد حصولها، لكن من الأصعب أن نُحدد الخطوات التي تسمح بتصحيح الوضع.

المجتمع الأميركي استسلم للخوف


بدت المخاوف بعد المرحلة الأولى من الهجوم منطقية. حذر الخبراء من وقوع موجة اعتداءات أخرى وانتشار خلايا نائمة تابعة لتنظيم "القاعدة" في أنحاء البلد. فجأةً، بدا العالم مخيفاً بالنسبة إلى المواطنين العاديين، بما في ذلك المسؤولين عن جمع المعلومات الاستخبارية وراء الأبواب المغلقة.

حتى المؤامرات غير المثبتة أجّجت الانطباع القائل إن الولايات المتحدة باتت معرّضة لاعتداءات دائمة من عدو غامض وقوي وواسع الانتشار. وبدل الاعتراف بأن جماعة متطرفة استغلت الشوائب القابلة للإصلاح في نظام الأمن الأميركي لتنفيذ هجوم 11 أيلول، أطلقت إدارة جورج بوش الإبن حملة مبهمة وكارثية لإنقاذ العالم من "الإرهاب" و"الشر".

في تلك الفترة، تكلم بعض المعلقين بكل تهذيب عن مخاطر الانجرار وراء هذه الأفكار الغامضة، لكن بدا وكأن الرأي العام الأميركي المصدوم يدعم الردود الجريئة التي تحمل أهدافاً كبرى.

كشف اصطدام الطائرة الثانية في الساعة التاسعة وثلاث دقائق، على مرأى من ملايين المشاهدين المسمّرين أمام شاشات التلفزة مباشرةً، أن الأميركيين لا يفهمون حقيقة العالم، واتّضحت أيضاً الأعذار التي يمكن استغلالها بحجّة تحقيق أهداف وطنية مشتركة، منها الحذر والارتياب، والسياسة الليبرالية للتعاون الدولي، والجهود العسكرية الانتقامية، ومهام إرساء الديموقراطية في الشرق الأوسط، وحملات غير مجدية أخرى في ظل استمرار الجمود العسكري. باختصار، أدت مخاوف قادتنا العميقة وهوية العدو المبهمة إلى سلسلة طويلة من الخيارات المأسوية.

طريقة خاطئة لتحقيق العدالة

بعد مرور عشرين سنة على اعتداءات 11 أيلول، لم نحصل على أي معلومة استخبارية مفيدة بفضل برنامج التعذيب الذي استُعمِل ضد عشرات المحتجزين لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. لقد عذبنا هؤلاء المعتقلين و"المقاتلين الأعداء" في "غوانتانامو" بغض النظر عن فعالية هذا الأسلوب. ثم وقعت ممارسات مشابهة في سجن أبو غريب في العراق. كانت وصمة العار الأخلاقية المشتقة من تلك الحقبة واضحة لدرجة أن تستعمل "القاعدة في العراق" تلك الصور ضدنا لاحقاً. ومع ذلك، أصرّ القادة الأميركيون على التمسّك بهذه المقاربة.

في غضون ذلك، لم يكن سحب قضايا الإرهاب من المحاكم الفيدرالية التقليدية وإحالتها إلى المحاكم العسكرية تدبيراً كافياً لإرضاء عائلات ضحايا 11 أيلول. حتى الآن، لم يُحاكَم أي واحد من المخططين القابعين في "غوانتانامو". ولا تزال إجراءات اللجنة العسكرية الخاصة بخالد شيخ محمد، الذي يُعتبر العقل المدبر للهجوم، وأربعة مُدّعى عليهم آخرين في مرحلة ما قبل المحاكمة. قد تبدأ المحاكمة في السنة المقبلة أو في مرحلة لاحقة مستقبلاً. في الوقت نفسه، يدفع الجيش الأميركي ملايين الدولارات سنوياً للحفاظ على سجنٍ في كوبا يشمل متّهمين بالإرهاب من كبار السن وأشخاصاً في منتصف العمر. وفي إشارة أخرى إلى تأخّر تحقيق العدالة، يخطط الجيش لتأمين خدمات للرعاية بالمسنين خلال السنوات المقبلة. في المقابل، أثبتت المحاكم الفيدرالية التقليدية نجاحها المتكرر في محاكمة المُشتبه بهم في السنوات الأخيرة، فحاكمت مثلاً زكريا موسوي، وهو الشخص المُدان الوحيد من بين المخططين لهجوم 11 أيلول.

إهدار تام للنوايا الحسنة حول العالم

في المرحلة التي تلت هجوم 11 أيلول، برزت لحظة لامعة وإيجابية، فقد تعامل الناس حول العالم مع الاعتداء وكأنه استهدفهم. لكنّ معظم الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب بعد تلك المرحلة كلّفتنا عدداً كبيراً من الأصدقاء. أصبحت الأخطاء العسكرية والديبلوماسية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق واضحة جداً اليوم، وقد سجّلها الآخرون بالتفصيل لدرجة يصعب نسيانها. في البداية، بدا وكأن نجاح تجربة أفغانستان سيكون حتمياً. بعد أسابيع على الغزو، في خريف العام 2001، بدأت الولايات المتحدة تفوز بحرب محدودة ومُركّزة، لكن انشغلت إدارة بوش لاحقاً بغزو العراق، فأطلقت حرباً اختيارية وغير مبررة بناءً على العمليات الاستخبارية السيئة التي كانت مسؤولة عن عدد كبير من قرارات الحكومة الأخرى. ثم أدت أزمة العراق إلى هزيمة أخرى في أفغانستان رغم إنفاق تريليونات الدولارات وتكبّد خسائر بشرية كبرى في البلدين.

في أفغانستان، تعاون الأميركيون مع أشخاص مريعين، منهم أمراء حرب وسياسيون فاسدون نهبوا المناطق، واختلسوا المال، وسرقوا أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وهرّبوا المخدرات، وعقدوا صفقات سرية مع جهات يُفترض أن تقاتلها واشنطن. وبعد اغتيال شقيق رئيس أفغانستان في العام 2011، وصفت صحيفة "ذا غارديان" "زعيم المافيا" في جنوب أفغانستان بالرجل "الفاسد، والمخادع، والخارج عن القانون، والمتناقض، والخانع، والساحر"، لكنه لم يكن الشقيق الذي أجرت النيابة العامة الأميركية تحقيقات حوله بتُهَم الفساد. على صعيد آخر، تغاضينا عن اغتصاب الأطفال، ودعمنا حكومة لم تُعبّر يوماً عن رغبة الشعب واعتبرها المواطنون غير شرعية، وسرعان ما انهارت بعد أيام على انسحاب القوات الأميركية خلال هذا الصيف. كان قادتها من أوائل الهاربين!

اختيار خاطئ للأعداء

بذل الرئيس بوش قصارى جهده في البداية للتأكيد على أن المعركة ضد "القاعدة" ليست حرباً على الإسلام. لكنه وسّع نطاق المعركة كي تشمل هزم "جميع الجماعات الإرهابية حول العالم" واعتبر هذا الصراع مرتبطاً بالقيم الثقافية.

ربما أضعفت الحرب على الإرهاب قدرة أي جماعة إسلامية متطرفة على تنفيذ اعتداءات كبرى ومؤثرة مثل هجوم 11 أيلول، لكنّ العقلية التي أنشأتها تلك الحرب سمّمت الولايات المتحدة وسياساتها. نتيجةً لذلك، زادت جرائم الكراهية ضد المسلمين. خلال السنوات اللاحقة، توسّعت التدريبات المعادية للإسلام داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي والجيش، إلى حين كشف النقاب عنها في الصحافة على الأقل. وفي العام 2008، نشر متحدثون باسم الحزب الجمهوري معلومة خاطئة مفادها أن باراك أوباما مسلم، وكأن هذا الدين الذي يعتنقه مليار شخص حول العالم يكفي لتنحية أي مرشّح.

مهّدت هذه الجهود لنشوء حملة التشهير التي أطلقها دونالد ترامب ضد أوباما لكسب تعاطف قاعدة الناخبين في الحزب الجمهوري، والترشّح للرئاسة باسمه، وأخيراً الوصول إلى البيت الأبيض بناءً على برنامج انتخابي يؤجّج المخاوف من المهاجرين وتنظيم "داعش" والإرهابيين. كانت المدة الفاصلة بين تحطّم الطائرتين، أي السبع عشرة دقيقة التي نظر خلالها المارة إلى الدخان المتصاعد من البرج الشمالي قبل أن يتابعوا سيرهم، تجسيداً حقيقياً لنسخة لم نعد نعرفها اليوم من مدينة نيويورك والولايات المتحدة عموماً. يكفي أن نقارن ما حصل حينها بالفيديو الذي تظهر فيه دراجة نارية انفجر محرّكها في ساحة "تايمز سكوير" في صيف العام 2019. في هذه الحالة، راح الناس يهربون وركض الآلاف في محاولةٍ منهم لإنقاذ حياتهم لمجرّد أنهم سمعوا صوت فرقعة مطوّلة. بعدما أفسدت خياراتنا غداة هجوم 11 أيلول حالة الناس النفسية والسياسات الأميركية، أصبح هذا البلد خائفاً ومنقسماً، ومن المعروف أن الخوف يعزز الانقسامات. كذلك، زادت مبيعات الأسلحة بدرجة كبيرة.

تكمن المفارقة اليوم في اضطرارنا لمحاربة عدو غامض ومتبدّل آخر. أدى فيروس كورونا إلى قتل أعداد تساوي حصيلة ضحايا هجوم 11 أيلول كل ثلاثة أيام في آخر 18 شهراً. وتتجاوز الوفيات الإجمالية عدد سكان ولاية "وايومنغ" كلها. كان جزء من الرد الحكومي مثالياً على الأقل، فقد تطورت لقاحات مبتكرة وفعالة لهزم المرض، وتمت المصادقة عليها وتوزعت على معظم الراشدين الأميركيين مجاناً وبسرعة مبهرة. لكن بدل أن توحّد أزمة كورونا صفوف الأميركيين، يبدو أنها تُمعن في تقسيمهم. سيحلل المؤرخون هذه المرحلة يوماً ويتساءلون عن السبب الذي جعل المجتمع منقسماً لدرجة أن يتخبط الأميركيون في معالجة أزمة يستطيعون التعامل معها من الناحية التقنية.

سيكون الجواب بسيطاً للأسف: نحن نواجه الأزمة الراهنة بأقل قدر ممكن من الأمل والنوايا الحسنة والوحدة لأن هجوم 11 أيلول استنزف هذه العوامل الإيجابية. ولا يمكن فصل هذا الواقع عن أجواء الخوف والشك التي باتت تسيطر على ردود أفعال الولايات المتحدة منذ العام 2001 وسرعان ما أنتجت سلسلة طويلة من العواقب المأسوية والخيارات السيئة والسياسات السامة. عند مراجعة تلك الأحداث بعد مرور عقدَين من الزمن على وقوعها، يسهل أن نستنتج أننا لم نحارب إلا أنفسنا بعد هجوم 11 أيلول.


MISS 3