عيسى مخلوف

الفنّ والإبداع في مواجهة التطرُّف

25 أيلول 2021

02 : 00

دعوة الكاتب والصحافي الفرنسي إريك زيمور، المعروف بنزعته العنصريّة ومواقفه اليمينيّة المتطرّفة، إلى إعادة العمل بقانون يحدّد أسماء المواليد المسموح بها في فرنسا، أثارت، في الأيام الماضية، لغطاً وردود فعل كثيرة ترواحت بين الاستغراب والاستهجان والسخرية. وكان سبق لزيمور أن أثار هذا الموضوع في العام 2016 حين انتقد وزيرة العدل الفرنسيّة السابقة رشيدة داتي لأنّها سمَّت ابنتها زهرة، باسم جدّتها، وقال إنّ هذا الإسم وأسماء أخرى كثيرة، ومنها اسم لاعب كرة القدم زين الدين زيدان، تجعل أصحابها "أقلّ فرنسيّة" منه. لكن فات زيمور، بسبب تعصّبه ونزوعه المتطرّف، أن يلاحظ أنّ الأسماء الأجنبيّة التي ساهمت في صناعة الثقافة الفرنسيّة المعاصرة، ومن ضمنها الأسماء الآتية من العالم العربي والإسلامي، أكثر من أن تُحصى.

في موازاة هذا السجال، تطالعنا في فرنسا اليوم، مع بداية الخريف وعودة الموسم الثقافي، تظاهرات ثقافيّة تكشف عن منطق آخر، مختلف تماماً، لأنها تراهن على الفنّ والإبداع انطلاقاً من هاجس الحوار بين الثقافات، وتهدف إلى تعميق الإئتلاف لا الاختلاف، وإلى مواجهة التطرّف بأشكاله المختلفة. من هذه التظاهرات المعرض الذي افتُتح مؤخّراً في "معهد العالم العربي" في باريس وعنوانه "أنوار لبنان/ الفنّ الحديث والمعاصر منذ 1950 حتى اليوم". يكشف هذا المعرض، الذي يواكب الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت، عن حيويّة المشهد الفني في لبنان رغم الأهوال التي حلّت بهذا البلد. الأعمال المعروضة (والقسم الأكبر منها يأتي من المجموعة الخاصّة لكلود لومان) تغطّي تجارب كثيرة لفنانين لبنانيين من أجيال مختلفة، ومنهم شفيق عبّود وإيتل عدنان وصليبا الدويهي وأسادور وحسين ماضي وشوقي شوكيني وأيمن بعلبكي وزاد ملتقى.

إلى جانب هذا الحدث الفنّي، ستقام بدءاً من شهر تشرين الثاني المقبل تظاهرة فنية كبيرة، هي الأولى من نوعها في فرنسا، وتتجسّد في ثمانية عشر معرضاً تقام في ثماني عشرة مدينة تحت عنوان "فنون الإسلام/ ماضٍ من أجل حاضر". وهي إضاءة على الفنون الإسلامية التي تزخر بها المتاحف والمكتبات الفرنسية، لا سيّما متحف "اللوفر" (وهو من منظّمي التظاهرة) في جناحه المخصّص لهذه الفنون والذي جُدِّد واحتلّ مساحة أوسع في العام 2012 ليكون أبرز أجنحة الفنون الإسلامية في العالم، وهو يحتوي على ثلاثة آلاف قطعة فنّيّة ويغطّي الثقافات الإسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، من إسبانيا وصولاً إلى الهند، من القرن السابع حتى القرن التاسع عشر.

ستكون المعارض مفتوحة أمام الجمهور العريض وخصوصاً الأجيال الشابّة، وسترافقها سلسلة نشاطات تتضمّن ندوات ومحاضرات وعروضاً سينمائيّة وفنوناً مشهديّة حيّة. وسيكون لها صدى داخل المدارس نفسها من خلال تنظيم لقاءات تعليميّة تجمع بين التربية الفنية والثقافية من جهة، والتربية الأخلاقية والمدنية، بهدف إغناء الثقافة الإنسانية بين صفوف الطلاّب وتغذية علاقتهم بالآخرين، وجعلهم يطّلعون على وجه آخر للعالم العربي والإسلامي غير الذي يسعى البعض إلى تكريسه وحصره في التعصّب والإرهاب، وتَناسي أنّ المجتمعات العربيّة والإسلامية هي أولى ضحايا هذا النهج الظلامي الأعمى.

هذه التظاهرة الفنّية هي أيضاً بداية توجّه سياسي فرنسي جديد، وتريد أن تؤكّد أنّ الإسلام ليس ديناً فحسب، وإنما أيضاً حضارة تنطوي على تنوُّع إبداعي كبير، ديني ومدني على السواء. كما تؤكّد، بحسب ما صرّح به مؤخّراً رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس، على العلاقات التي نسجتها الفنون الإسلامية في فرنسا، وأثرها المُثري في الثقافة الفرنسيّة وفي فنّ العيش.

لقد تأخّرت فرنسا الرسميّة في إقامة مثل هذه المبادرات وفي استدراك أهمّيتها وقدرتها على مواجهة الأفكار المسبقة والنظرة القائمة على التعميم والخوف، كما تتجلّى في خطاب إريك زيمور، لكن كما يقول المثل الفرنسي الشائع "أن تصل متأخّراً خير من ألا تصل أبداً". إنه الرهان على الثقافة والفنّ كردّ على خطاب الكراهية والحقد. الفنّ يأتي من المستقبل وليس من الماضي. يتبَرعَم في الآفاق التي يفتحها المبدعون، ويكون بمثابة اليد الممدودة نحو الآخر، مهما اختلفت الإتنيات واللغات والمعتقدات والأديان.

لن يكون هناك خلاص فعليّ خارج تفعيل القواسم المشتركة بين الثقافات، وخارج التفاهم المتبادل على قاعدة الحوار المتكافئ بين الشعوب.


MISS 3