كريستوفر رويتر

حكّام أفغانستان الجدد

"طالبان" تُطلق حملة لسرقة أراضي سكّان القرى

12 تشرين الأول 2021

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 01

لطالما كانت أفغانستان دولة مفكّكة منذ استقلالها في العام 1919، ولا يقتصر السبب على تنوّع طوائفها الدينية. خاضت الجماعات العرقية المتناحرة في هذا البلد حروباً متكرّرة انتقاماً للظلم الذي تعرّضت له، لكنها ارتكبت بذلك ظلماً يفوق ما عاشته سابقاً.

إذا أرادت حركة "طالبان" اليوم أن تتمسك بالسلطة وتنشر السلام في البلد، يُفترض أن تكسر دوامة العنف هذه في المقام الأول. لكن على أرض الواقع، أطلقت الحركة حملات تطهير جديدة في ولاية "دايكوندي" وقد استهدفت بشكلٍ شبه كامل جماعة الهزارة المؤلفة في معظمها من الأقلية الشيعية التي تعتبرها "طالبان" كافرة وتتعامل مع أعضائها كأشخاص من الدرجة الثانية.

على غرار "دايكوندي"، أصبحت مناطق بعيدة أخرى من البلد معرّضة للحرمان المنهجي مجدداً. غالباً ما يتكرر النمط نفسه: تظهر مجموعة من "طالبان" فجأةً وتدعو جميع الرجال المجتمعين في المسجد أو ساحة البلدة وتعطيهم إنذاراً أخيراً لإخلاء القرية وتتراوح المهلة النهائية عموماً بين خمسة أيام و15 يوماً، وإلا سيتم إخراجهم بالقوة.

في الأيام الأولى التي تلت استيلاء "طالبان" على البلد، تكلم الكثيرون عن تساهل مستجد في أسلوب الحركة، لكن سرعان ما تلاشى هذا الاعتدال المزعوم حين أشاح العالم بنظره عن أفغانستان. إنها الاستراتيجية التي يريد الحكام المتطرفون الجدد تطبيقها على ما يبدو بعد استلامهم السلطة في 15 آب غداة انهيار الحكومة السابقة. حاول هؤلاء في بياناتهم وإطلالاتهم الأولى طرح صورة مُطَمْئِنة عن أنفسهم كشركاء سلميين للمجتمع الدولي وحافظي الأمن محلياً.

لكن تبيّن منذ ذلك الحين أن هذه الصورة الإيجابية هي مجرّد وهم. في البداية، نشأت الحكومة المؤلفة بشكلٍ شبه كامل من ملالي تابعين لحركة "طالبان". ثم انتشرت صور من المحافظات تظهر فيها جثث يقال إنها تعود إلى خاطفين، وتم الإعلان عن العودة إلى قطع الأيدي لمعاقبة السارقين وإغلاق مدارس الفتيات. هكذا انتهت البداية الجديدة التي وعدت بها "طالبان" قبل أن تتمكن الدولة الناشئة من دفع أول رواتب الموظفين الحكوميين.

في جبال "دايكوندي" النائية، بدأت "طالبان" تكشف عن وجهها الحقيقي أيضاً وكأنها تراهن على استسلام المزارعين بسهولة في بلداتهم المعزولة. يعيش أعضاء جماعة البشتون العرقية التي أنتجت حركة "طالبان" إلى جانب أقلية الهزارة في هذا المكان منذ قرون، وهم ينافسونهم طوال الوقت على الأراضي الزراعية الضئيلة.

في السنوات الأخيرة، واجهت أقلية الهزارة العقوبات أيضاً بسبب الظلم الذي ارتكبه آخرون. في العام 1997، بعدما قتلت ميليشيات أوزبكية 3 آلاف سجين من "طالبان" في المناطق المحيطة بمدينة مزار شريف الشمالية خلال الحرب الأهلية، انتقمت "طالبان" من جماعة لا علاقة لها بتلك المجزرة لكنها تكرهها في مطلق الأحوال: الهزارة. تنقّل عناصر "طالبان" من منزل إلى آخر وقتلوا ألفَي شخص على الأقل عبر قطع حناجرهم وإطلاق أسلحة مضادة للطائرات نحو جماعات من المدنيين.

ثم حاول حاكم "طالبان"، المُلا نيازي، تعزيز الدعم الذي يحظى به عبر وضع أقلية الهزارة في مصاف الكفار الذين يستحقون الموت. وفي بداية العام 2001، فجّر عناصر من "طالبان" تماثيل بوذا العملاقة والمشهورة عالمياً التي حُفِرت منذ أكثر من ألف سنة في جدار الجرف فوق مدينة "باميان"، في قلب منطقة الهزارة.


أرض زراعية في وادي تاجبدار


اختار حاكم المنطقة، وهو مدير مدرسة سابق اسمه غلام حضرة محمدي، طريقة غير متوقعة لمقاومة الحكام الجدد، فجمع حديثاً سكان البلدة لتصوير فيديو احتجاجي ثم نشره على فيسبوك. لم يُعطِ الفيديو أي أثر، لكن لا يريد السكان الاستسلام بكل بساطة. يعكس هذا الوضع في مطلق الأحوال ما تمرّ به أفغانستان اليوم: تريد "طالبان" أن تسرق الأراضي من المزارعين كما فعلت منذ عقود، لكن يعمد السكان هذه المرة إلى إطلاق حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمقاومة ما يحصل. اضطر محمدي شخصياً للهرب إلى كابول، وهو يختبئ الآن من "طالبان" في ضواحي العاصمة.

أقدمت "طالبان" على غزو ولاية "دايكوندي" قبل أسابيع من سيطرتها على كابول. بقي الوضع هادئاً في شهر حزيران، حين كان المشمش لا يزال في طور النضج. لكن بحلول موعد الحصاد في تموز، يتذكر المزارع محمد المنتمي إلى جماعة الهزارة أنه لم يعد ينام جيداً بعد وصول أوائل المقاتلين إلى القرى المجاورة وتفجيرهم بضعة منازل تعود إلى موظفين حكوميين وعناصر في الجيش. لكنه كان يأمل في أن تمرّ هذه العاصفة سريعاً.

لكن حين وصلت قوات "طالبان" لتوجيه إنذارها الأخير، اتضح له أن الحركة لن تستثني أحداً. يتذكر محمد كلام الدخلاء قائلاً: "لقد قالوا إن صاحب الأرض الحقيقي قدّم الوثائق إلى محكمة "طالبان" لإثبات ملكيته. ثم لوّحوا بوثيقة معينة لكن لم يسمحوا لأحد بالاقتراب لقراءتها أو تصويرها".

يأمل محمــــد ومزارعون آخرون الآن في الدفاع عن أنفسهم سلمياً في محكمة "طالبان". لا أحد هناك يعتبر هذه المحكمة موضوعية، لكن يظن محمد أن المقاومة المسلحة ستكون أشبه بالانتحار.

يتساءل محمد بكل هدوء الآن: "إذا طردونا من الوادي، إلى أن سنذهب؟ وإذا كان أعضاء البشتون يستولون على جميع الأراضي الخصبة، فلن يرحب بنا أحد في أي مكان".

عاد جاره سعيد إقبال، رئيس آخر بلدة تقع على طرف وادي "تاجبدار"، من مخبئه في ذلك اليوم وقال: "إذا كنا، أنا ورؤساء القرى الأخرى، هنا عند عودة "طالبان"، سيجبروننا على توقيع وثائق للتنازل عن المنطقة أو ختمها على الأقل ببصمتنا". هم قرروا الاختباء لتجنب هذا السيناريو.

حتى قبل صدور الإنذار الأخير عن حركة "طالبان"، يقول إقبال إن أحد معارفه القدامى من جماعة البشتون في قرية مجاورة حَضَر إليه وهدده وهو يبتسم في وجهه، فقال له: "لطالما تركناكم، أنتم جماعة الهزارة، تعيشون بسلام، حتى عندما كانت "طالبان" تحكم البلد في السابق. لكننا عدنا ولاحظنا كيف فضّلتم مساعدة الأميركيين والحكومة في كابول! وكيف نشرتم الديموقراطية والهرطقات الأخرى! لقد خسرتم بهذه الطريقة حقكم بالعيش! الآن، يمكننا أن نأخذ منكم كل شيء، حتى حياتكم! لذا من الأفضل أن تستسلموا من تلقاء أنفسكم وتختفوا عن الأنظار". يقول إقبال إنه قرر الرحيل بعد ذلك التهديد.

لم يتوقف أعضاء أقلية الهزارة عن الخوف من البشتون أو قوة الدولة يوماً بعد السنوات المريعة التي عاشوها منذ أكثر من مئة سنة. وعندما عادت حركة "طالبان" إلى السلطة مجدداً في شهر آب، هرب الآلاف منهم من البلد، حتى أن بعضهم فضّل الاختباء في معقلهم في مدينة "باميان". هم يُجمِعون على عدم ثقتهم بأي شكل من السلام، رغم غياب أي تقارير علنية حول وقوع اعتداءات في كابول أو أي مدن كبيرة أخرى. لكن في المناطق الريفية، يبدو الوضع مختلفاً.

يروي عدد كبير من سكان القرى الممتدة على طول وادي "تاجبدار" قصصاً مشابهة حول التهديدات المطروحة ويؤكدون على تعرّضهم لمجزرة منظّمة. لكن تطبّق "طالبان" من جهتها مقاربة ضمنية، فيشعل عناصرها النيران لكنهم ينكرون علاقتهم بما يحصل. يسهل أن يفلتوا بفعلتهم لأن صاحب جميع القرى في الوادي لا ينتمي إلى البشتون على الأرجح، بل إنه شيعي مثل أعضاء الهزارة الذين يتعرضون للطرد.

الرحلة إلى منطقة "جيزاب"، عاصمة ولاية "دايكوندي"، ليست بعيدة جداً، لكن يصبح مسارها متعرجاً بعد تجاوز قمم الجبال والمرور بالوديان العميقة. تقع هذه المساحة وسط أكبر وادٍ في المنطقة، وهي عبارة عن واحة خضراء شاسعة وسط جبال مقفرة.

اليوم، لا يتجول إلا الرجال بعد شروق الشمس وراء جدران مدرسة الفتيات، على الجانب الآخر من الطريق الرئيسي المُغبِر، ويتغوطون على طول شريط الإسمنت بموازاة الجدار بعيداً عن الأنظار. تعكس هذه التصرفات حتماً أعلى درجات قلة الاحترام لهذا النوع من المساعدات التعليمية الأجنبية، فقد بُنِيت المدرسة بمبادرة من منظمة أميركية لكن لم يستعملها أحد لأن الناس هناك غير معتادين على إرسال بناتهم إلى المدارس.

في البداية، غَزَت "طالبان" البلدة في الربيع، ثم أطلق الجيش النظامي الصواريخ ضد مجموعة مبانٍ على أمل طرد "طالبان". لكن بعد استيلاء الحركة على المكان، حَضَر رجال فجأةً وتكلموا عن علاقاتهم الممتازة مع الحكام الجدد، ثم طالبوا بحقولٍ تعود إلى من يطالبون اليوم بأراضيهم في قاعات المحكمة. أحياناً، قد ينتمي جميع الخصوم في القضايا إلى جماعة البشتون، ما يعني أن الصراع لم يعد محصوراً بحملة تستهدف أقلية عرقية، بل يتعلق كل ما يحصل بالجشع وانتشار الفوضى.

تبدو هذه المحاولات التعسفية للسرقة أشبه بنسخة مصغّرة عن وضع أفغانستان عموماً. يتصرف الأفراد هناك وكأنهم يمثّلون كتلاً كبرى في السلطة، فيسعون إلى الاستفادة من لحظات القوة لجمع الثروات، حتى لو عنى ذلك تدمير بلدهم.


MISS 3