د. جنان شعبان

الجامعة اللبنانيّة قدس من مقدّسات لبنان

10 تشرين الثاني 2021

02 : 00

تتعرّض الجامعة اللبنانية لأزمة متفاقمة قد تصبح مستعصية، في حال اهمال علاجها وايجاد حلول لها. وتتطلب ازمتها من وزير الوصاية عليها ومن الحكومة القائمة إعلان حالة طوارئ وتبنّي خطة لإنقاذها. فالجامعة تنزف منذ سنوات تحت وطأة استتباعها من قبل المنظومة السياسية الحاكمة، وزاد نزيفها في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يمر بها الوطن.

ولم يكن ما وصلت إليه جامعة الوطن مفاجئاً، وذلك بعدما ضربت السلطة بعرض الحائط سلسلة المطالب والحقوق التي رفعها اساتذتها وطلابها، وعلى مدى سنوات طويلة، محاولين الحفاظ عليها. اليوم حصل ما كان متوقعاً، جامعة أساتذتها وطلابها في بيوتهم ينتظرون رفع الظلم عنهم وإعطاءهم جزءاً من حقوقهم، ليتمكنوا من القيام بوظائفهم وواجباتهم، في وقت عصيب يمر فيه لبنان.

إنّ الجامعة اللبنانية التي أعلن أساتذتها المتفرغون والمتعاقدون الإضراب عن التدريس منذ أشهر ولا يزالون مستمرين في اضرابهم، تعاني من مشاكل متنوعة، أهمها وأبرزها، السيطرة السياسية والطائفية والحزبية عليها ومصادرة قرارها لسنوات طويلة، مما أدى ليس إلى تسييس مجلس الجامعة وحسب، إن وجد، بل إلى تعطيله كما يحصل الآن، كما أدى إلى تعيين رئيسها بالتوافق بين الرئيس السابق ووزير الوصاية وحسب، بدلاً من اختياره من بين خمسة مرشحين يرشحهم مجلس الجامعة حسب ما يرسم القانون وخاصة المادة العاشرة من تنظيم الجامعة.. وينطبق الواقع هذا أيضاً على جميع كليات الجامعة ووحداتها وأقسامها الإدارية، من رؤساء أقسام، مروراً بمجالس الوحدات ومجالس الكلية إلى تعيين العمداء.

هذه الأزمة المتعددة الوجهات، مع التفاعلات الخطيرة التي نشهدها، يفترض ان تكون حافزاً من أهم الحوافز التي تمثل سبباً أساسياً للإهتمام بالجامعة اللبنانية والتوقف عن تشييئها، والعمل على تعزيز قدرتها على تحضير الشباب اللبناني وتنميته، واعداد الشابات والشباب ليكونوا قياديين ومشاركين مؤهلين في مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة لمواجهة التحديات المتوقعة.

فالتعليم في مختلف مراحله ولا سيما في المرحلة الجامعية هو أساس التنمية المستدامة، وقد جعل الهدف الرابع (4)، من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (17)، التي اعتمدتها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015، لأن إيلاء هذا القطاع الأولوية المطلقة من الاهتمام، هو من أفضل الإستثمارات التي توسع الاقتصاد وتحقّق النمو وتنتج فوائض مالية تسترجع مصروفاتها وتستعيد إيراداتها على المدى البعيد، ودور الدولة في هذا التمويل يظل أساسياً، ويجب تعزيزه. والمطلوب من الجامعة اللبنانية اضافة لذلك، العمل على ضبط فعالية هذا الإنفاق وحسن إدارته وشفافية حساباته، كما مطلوب ايضاً توسيع قاعدة التعليم الجامعي الرسمي واتاحته كحقّ مواطني، والحفاظ على جودة التعليم وملاءمته لتطور العلوم واسواق المهن والاستهلاك.. اللافت في لبنان ان حصة الاسر اللبنانية من تحمل كلفة التعليم هو مرتفع بشكل كبير مقارنة مع دول اخرى، فمن أصل 11.4% مقدار إجمالي الإنفاق على التعليم في لبنان من الناتج المحلّي القائم، تتحمّل الأسر اللبنانية 7 في المئة منه، وهذا يعدّ من أعلى المساهمات في المقارنات الدولية، اذ لا تتجاوز مساهمات الأسر من الناتج المحلي، 0.4% في فرنسا، و2.2% في الولايات المتحدة، و2.8% في كوريا الجنوبية...

ان الجامعة اللبنانية في المبدأ توفر لأوسع فئات الطلاب حق الترقي الإجتماعي من خلال التعليم العالي، لذلك ومن منطلق العمل على المحافظة على التنمية الإجتماعية والتعليم الرسمي وجودته يجب:

أولاً: العمل على إيجاد الحل الفوري لزيادة الأموال المخصصة لقطاع التربية ولو على حساب بنود أخرى، وزيادة رواتب الهيئة التعليمية والإدارية، وتعديل أجور الساعة للمتعاقدين.

ثانياً: ضمان الأمن الوظيفي في التعليم، إذ أنّ تثبيت الأستاذ المتعاقد في عمله هو عامل أساسي يصون مصالح التعليم العالي، وهذا التثبيت يشكل واحداً من أهم الضمانات الإجرائية للحرية الأكاديمية ضد القرارات التعسفية، وهو أمر أساسيّ لتطوير الجامعة وتقدمها وللنهوض بالوطن. كما أنّ دخول المتفرغين المستوفين الشروط الأكاديمية والقانونية إلى ملاك الدولة لا يرتب أيّ أعباء على الخزينة، بل على العكس، يؤدي إلى دخول مليارات الليرات من خلال ضريبة التقاعد (6%) التي لا يدفعها المتعاقدون المتفرغون حالياً. كما تجدر الإشارة إلى أنّ حرمان الأساتذة المتفرغين حين يبلغون سن التقاعد من الدخول إلى الملاك، وقطع الراتب التقاعدي عنهم، قبل أن يكون مخالفة صريحة لقانون الوظيفة العامة، هو قمة الظلم، والإستهانة بالعمر الذي أمضوه في خدمة الجامعة وأجيال الوطن.

ثالثاً: درس احتياجات سوق العمل المتجدد وإقرار اختصاصات جديدة وإعادة درس المناهج الموجودة، وبناء عليه يتم إقرار أعداد الطلاب المطلوبة وخصوصاً في مرحلة الدكتوراه. كذلك العمل على تمكين جميع الأساتذة من دون تمييز وتسهيل رحلاتهم العلمية من خلال تعزيز مكانة البحث العلمي، وتنظيم أطره المؤسسية ولحظ الأولويات الإجتماعية في وضع سياساته.

رابعاً: توثيق صلة الجامعة بالمجتمع وبقطاعات الإقتصاد المختلفة صناعة وزراعة وخدمات ومؤسسات القطاع العام والخاص ومساعدة الأساتذة من دون تمييز على تقديم المشاريع المنتجة التي تخدمهم وتخدم الجامعة والدولة وهو ما ينشئ فرصاً لتنويع مصادر تمويل الجامعة.

خامساً: وضع خطة مفصلة تؤدي إلى استقلالية الجامعة وعدم تدخل السلطة السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية في المسائل الأكاديمية، وهي اساس الخلل والخطر الدائم على الجامعة اللبنانية، اذ أنّ تدخّل السياسيين المباشر وغير المباشر أدى إلى تراجع المستوى الأكاديمي، بل أضحت الجامعة تلفظ أنفاسها الأخيرة. فليتحمل السياسيون وأهل السلطة مسؤولياتهم، وتصحيح الخطأ الفادح الذي اقترفوه، من ناحية اعتماد التوازن الطائفي غير الأكاديمي في جميع ملفات التعليم والذي أدى إلى انحدار الجودة وانهيار المؤسسات التعليمية.

سادساً: ان التسيب واستمراره على مدى سنوات وسيطرة أحزاب السلطة على جامعة الوطن، أدى إلى ظلم الطلاب، من ناحية اختيار المنتمين للأحزاب بدلاً من اختيار الذين حصلوا على المعدلات الأعلى في بعض كليات تخضع لسطوة ميليشيوية، وبهذا يكون قد تمّ عقاب الطالب المنتمي إلى وطنه لصالح طالب باع نفسه لزعيمه، وهذه جريمة بحق الوطن.

لا يقتصر اثر استباحة السياسيين للجامعة على الطلاب فقط، بل ان هذا التدخل أجبر أصحاب الإختصاص من خريجي ارقى جامعات العالم على الوقوف عند أبواب السياسيين، لطلب الوظيفة شرط الولاء السياسي وليس الكفاءة الأكاديمية.

ان رفع ايادي السياسيين عن الجامعة هو شرط مؤسس لممارسة الحريات الأكاديمية والعمل بالقوانين، والقيام بالواجبات وإعطاء الحقوق، وان اول خطوة في وقف استباحة الجامعة من المنظومة هي إعادة الإستقلالية الإدارية والأكاديمية للجامعة اللبنانية، اما الخطوة الثانية فهي تطبيق الشفافية المالية في موازنات الجامعة وخضوعها لقانون المحاسبة العمومية، والالتزام بقانون تنظيم الجامعة اللبنانية القانون 75/69، وتعديلاته سيما القانون 66/2009، واعادة احياء المجالس الأكاديمية في الجامعة، وإعادة دور مجلس الجامعة وإعادة الصلاحيات المعطاة له بموجب الأنظمة والقوانين. مع التأكيد على تعيين عمداء أصيلين والمفاضلة على أساس الملف العلمي وليس المحاصصات الطائفية والحزبية والزبائنية.

فهل آن الاوان أن تسمع مناشدة الأكاديميين لكف يد السياسيين وزعماء احزاب الطوائف عن الجامعة اللبنانية والمساعدة بإنقاذها، تلك الجامعة التي تأسست بعد تظاهرات اتحاد طلاب لبنان، الذين فقدوا شهيداً في أول تظاهرة لهم قبل تأسيسها وكان شعارهم آنذاك: لا إستقلال حقيقياً من دون تعليم وطني جامعي.

إنّ الجامعة اللبنانية هي قدس من مقدسات لبنان، وعلى جميع المسؤولين في مختلف الطوائف والأحزاب، التعامل معها على هذا الأساس.

بالله عليكم، كفى تشييئاً لجامعة الوطن، ودعوا التربويين الأكاديميين ينقذون التعليم العالي من خراب المحاصصات الطائفية والحزبية. كفوا أيديكم، علّنا نستعيد تجربة حسن مشرفية وادمون نعيم والجيل المؤسس الذين على أكتافهم تم بناء جامعة الوطن.

MISS 3