ماذا لو كانت جميع معلوماتنا عن تاريخ البشرية خاطئة؟

02 : 00

في كتاب The Dawn of Everything، يحاول عالِم الأنثروبولوجيا ديفيد غريبر وعالِم الآثار ديفيد وينغرو إعادة صياغة قصّة ماضينا المشترك... ومستقبلنا الجماعيّ أيضاً!

في إحدى ليالي شهر آب من العام 2020، قرر عالِم الأنثروبولوجيا والناشط الفوضوي الذي اشتهر كواحد من أوائل منظّمي حركة "احتلوا وول ستريت" دخول حسابه على تويتر لكتابة عبارة بسيطة.

لقد استوحى كلامه من كلمات أغنية لفرقة الروك "ذا دورز"، فكتب: "عقلي مصاب بالكدمات بسبب مفاجأة مُخدِّرة. هل انتهى كل شيء"؟ كان يشير بكلامه إلى الكتاب الذي يعمل عليه منذ عشر سنوات تقريباً مع عالِم الآثار ديفيد وينغرو. حمل هذا المشروع هدفاً طموحاً جداً: تغيير جميع المعلومات التي نعرفها حول أصل المجتمعات البشرية ومسار تطورها.

قبل أن يشتهر غريبر بسبب دوره في حركة "احتلوا وول ستريت"، كان يُعتبر أصلاً من ألمع المفكرين في مجاله. لكن سرعان ما تبيّن أن كتابه الأكثر طموحاً سيكون الأخير في مسيرته. بعد شهر على كتابة تلك العبارة على تويتر، توفي غريبر (59 عاماً) فجأةً من جراء إصابته بالتهاب البنكرياس الناخر، فتدفقت عبارات الرثاء المشحونة بمشاعر الصدمة من علماء وناشطين وأصدقاء له حول العالم.

قد ينجح كتاب The Dawn of Everything: A New History of Humanity (فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية)، الصادر عن دار نشر "فارار شتراوس وجيرو"، في نسف الأفكار النموذجية الشائعة في مؤلفات حققت مبيعات ضخمة، مثل Sapiens (الإنسان العاقل) للمؤرخ يوفال نوح هراري، أوGuns, Germs and Steel (أسلحة، جراثيم وفولاذ) للعالِم جاريد دايموند. لكن سبق وحصد الكتاب الجديد تقييمات إيجابية (ولو أنها لا تخلو من النقد بالكامل). قبل ثلاثة أسابيع على نشر الكتاب، وبعد وصوله فجأةً إلى المرتبة الثانية على قائمة "أمازون"، طلبت دار النشر إصدار 75 ألف نسخة أخرى بالإضافة إلى أول 50 ألف طبعة.

خلال مقابلة عبر الفيديو في الشهر الماضي، استعمل وينغرو، وهو بروفيسور في "كلية لندن الجامعية"، أسلوباً ينمّ عن عظمة وهمية لتكرار واحدة من العبارات المفضلة لدى غريبر، فقال: "سنغيّر مسار التاريخ البشري، بدءاً من الماضي".

ثم زاد كلام وينغرو جدّية حين قال إن الكتاب الجديد، الذي يتألف من 704 صفحات ويشمل قائمة مراجع تمتد على 63 صفحة، يهدف إلى تجميع الاكتشافات الأثرية التي حصلت في العقود الأخيرة لكنها لم تخرج من المجلات المتخصصة كي تصبح جزءاً من الوعي العام.

أضاف وينغرو: "يبدو أن صورة جديدة بالكامل حول ماضي البشرية وقدراتها توشك على الظهور، وهي لا تشبه القصص الراسخة والمتداولة في شيء".

تبرز نقاط اختلاف واضحة بين الكتب التاريخية التي حققت أعلى المبيعات وتحمل توقيع هراري ودايموند وآخرين. لكن يظن وينغرو وغريبر أن تلك الكتب ترتكز على فكرة مشابهة حول حصول تقدّم خطي (أو تراجع خطي، بحسب وجهة نظر كل فرد).

وفق هذه القصة، لم يقع أي حدث مهم خلال أول 300 ألف سنة بعد ظهور الإنسان العاقل. كان الناس في كل مكان يعيشون ضمن جماعات صغيرة ومتساوية من الصيادين وجامعي الثمار، إلى أن أنتج اختراع الزراعة المفاجئ في العام 9 آلاف قبل الميلاد مجتمعات مستقرة ودولاً مبنية على اللامساوة والتسلسل الهرمي والبيروقراطية.

لكنّ هذه المعلومات كلها خاطئة برأي غريبر ووينغرو. هما يكتبان أن الاكتشافات الأثرية الجديدة تثبت أن البشر الأوائل لم يسلكوا مساراً تطورياً ثابتاً بطريقة آلية وعمياء رداً على الضغوط المادية، بل إنهم اختبروا بكل وعي "مهرجاناً من الأشكال السياسية".

هما يعتبران هذه الحكاية أكثر دقة من سابقاتها، لكنها "قصة واعدة وأكثر إثارة للاهتمام" أيضاً: "نحن جميعاً مشاريع مُعدّة للخلق الذاتي الجماعي. بدل أن نروي قصة حول تخلي مجتمعنا عن مظاهر مثالية من المساواة، ماذا لو بدأنا نتساءل حول السبب الذي جعلنا عالقين في هذه المفاهيم الضيقة والخانقة لدرجة ألا نتخيّل احتمال أن نعيد ابتكار أنفسنا"؟

يعود الكتاب في الأصل إلى العام 2011 تقريباً، حين كان وينغرو يعمل في جامعة نيويورك، علماً أن عمله الميداني في مجال الآثار كان يُركّز على أفريقيا والشرق الأوسط. كان الرجلان قد التقيا قبل بضع سنوات، حين تواجد غريبر في بريطانيا للبحث عن عمل بعدما رفضت جامعة "يال" تجديد عقده لأسباب غير معلنة مع أنه كان مقتعناً، هو وآخرون، بأن هذا القرار مرتبط بسياسته الأناركية.

في نيويورك، كان الرجلان يتقابلان أحياناً لإجراء محادثات مطولة على العشاء. وبعد عودة وينغرو إلى لندن، يتذكر هذا الأخير أن غريبر بدأ يرسل له ملاحظات حول المسائل التي يكتبها، ثم تكثفت تلك التبادلات إلى أن أدركا أنهما يكادان ينهيان كتاباً كاملاً عبر البريد الإلكتروني.

في البداية، ظن الرجلان أن الكتاب سيكون قصيراً وسيتمحور حول أصل اللامساواة الاجتماعية. لكنهما بدآ يشعران بعد فترة بأن هذه المسألة كلها خاطئة، وهي تعود إلى عصر التنوير.

يقول وينغرو: "كلما فكرنا بالموضوع، كنا نتساءل عما يجعلنا نحصر التاريخ البشري بهذه الظاهرة تحديداً. هذه الفكرة تفترض أن الوضع كان مختلفاً في العصور القديمة".

يبلغ وينغرو 49 عاماً، وهو عالِم متخرّج من جامعة "أكسفورد"، ويُعتبر أسلوبه أكاديمياً ونموذجياً أكثر من غريبر الذي لم يكن تقليدياً بشكل عام. يقول وينغرو إن العلاقة بينهما كانت عبارة عن شراكة حقيقية. على غرار الكثيرين، تكلم وينغرو عن عبقرية غريبر بكل احترام (وفق قصة شائعة، لفتت براعة غريبر في فك رموز الكتابة الهيروغليفية في حضارة المايا، حين كان في سن المراهقة، أنظار علماء الآثار المحترفين). يتكلم وينغرو أيضاً عن سخاء غريبر الاستثنائي، فيقول: "كان ديفيد يشبه رؤساء القرى الأمازونية، ما يعني أنه أفقر رجل في البلدة لأن مهمته الأساسية تقضي بتقديم الخدمات للآخرين. كان يبرع في الاطلاع على أعمال الغير ويضفي طابعاً ساحراً على المشاريع كلها".

حصلت معظم الاكتشافات التاريخية الكبرى والحديثة على يد علماء الجغرافيا والسياسة وخبراء الاقتصاد وعلماء النفس، ويكتب معظمهم مؤلفاتهم انطلاقاً من الإطار التوجيهي للتطور البيولوجي. (في ملاحظة هامشية لتقييم خبرة كبار المؤرخين المنافسين، هم يَصِفون دايموند، أستاذ الجغرافيا في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس، بعبارة "حامل شهادة دكتوراه في فيزيولوجيا المرارة").

في المقابل، يكتب غريبر ووينغرو مؤلفاتهما انطلاقاً من تقاليد النظرية الاجتماعية الكبرى التي تشتق من أمثال فيبر ودوركايم وليفي شتراوس. في أحد المنشورات من العام 2011، تذكّر غريبر أن صديقاً له قرأ كتابه القوي بالقدر نفسه، Debt: The First 5,000 Years (الدين: أول 5 آلاف سنة)، ثم أخبره بأن أحداً لم يُصدِر كتاباً مشابهاً منذ مئة سنة. قال غريبر ساخراً: "ما زلتُ غير واثق بأنه كان يجاملني".

يشمل كتابه الأخير نقاشات حول مدافن أميرية في أوروبا خلال العصر الجليدي، والمواقف المتناقضة تجاه العبودية وسط مجتمعات السكان الأصليين في كاليفورنيا الشمالية وشمال غرب المحيط الهادئ، والتداعيات السياسية للزراعة في الأراضي الجافة مقارنةً بالزراعة في قاع النهر، وتعقيدات مستوطنات ما قبل الزراعة في اليابان، فضلاً عن مواضيع أخرى كثيرة.

لكنّ عدد المراجع الهائل يطرح سؤالاً حتمياً: ما هي الجهات المؤهلة لإصدار أحكام حول صحة المعلومات المطروحة؟

قيّم المؤرخ دانيال إمروار الكتاب في مجلة "ذا نيشن" واعتبر غريبر "مفكراً خلاقاً لأقصى الدرجات" ولطالما عُرِف برأيه كشخص مثير للاهتمام أكثر مما هو على صواب في أفكاره، ولطالما سُئِل عن إمكانية الوثوق بالقفزات والفرضيات الواردة في الكتاب.

اعتبر إمروار ادعاءً واحداً على الأقل "خاطئاً على نحو مريع"، وهو يتعلق بالفكرة القائلة إن المستوطنين الأميركيين الاستعماريين اختاروا "بشكلٍ شبه دائم" البقاء مع السكان الأصليين رغم أسرهم لهم، فزَعَم أن المرجع الوحيد الذي ذكره الكاتبان (أطروحة من العام 1977) يشير إلى العكس.

ردّ وينغرو قائلاً إن إمروار هو الذي قرأ المصدر بطريقة خاطئة، واعترف بأنه حرص مع غريبر على نشر الحجج الأساسية التي يطرحها الكتاب في صحف رائدة تخضع لتقييم الخبراء أو تطرّق إليها في عدد من أهم المحاضرات في مجال عمله.

تكلم وينغرو عن تفاصيل تلك المرحلة قائلاً: "أتذكر أنني تساءلتُ في تلك الفترة: ما الذي يدفعنا إلى تحمّل هذه المشقات كلها؟ لقد أصبحت مكانتنا راسخة في هذا المجال. لكن أصرّ ديفيد على أهمية هذه الخطوة".

جيمس سكوت هو عالِم سياسي بارز في جامعة "يال"، وقد حاول كتابهAgainst the Grain: A Deep History of the Earliest States (ضد المألوف: تاريخ عميق للدول الأولى) أن يتحدى الأفكار الشائعة أيضاً. بحسب رأيه، لا مفر من رفض أفكار غريبر ووينغرو، كما حصل مع الأفكار التي طرحها بنفسه، حين يراجعها علماء آخرون.

لكنه قال إن الرجلَين وجّها "ضربة قاضية" لفكرة ضعيفة أصلاً حول رغبة البشر في الاستقرار في دول زراعية منذ البداية.

لكن يظن سكوت أن أكثر جزء لافت في الكتاب يتعلق بفصلٍ سابق حول ما يسمّيه الكاتبان "انتقاد السكان الأصليين". برأيهما، لم يكن عصر التنوير الأوروبي مصدراً إيجابياً للحكمة التي تحتاج إليها بقية دول العالم، بل إنه نتاج حوار مع السكان الأصليين في العالم الجديد، وقد أثّرت تقييماتهم اللاذعة لعيوب المجتمع الأوروبي على أفكار الحرية الناشئة.

يضيف سكوت: "أراهن على أن هذا الجانب أثّر بقوة على طريقة فهمنا للعلاقة بين الغرب وبقية المناطق".

على صعيد آخر، يطرح الكتاب أدلة واضحة حول المجتمعات المعقدة والكبيرة التي ازدهرت من دون وجود مفهوم الدولة، ويُعرِّف الحرية بشكلٍ أساسي كشكل من "حرية العصيان". من الواضح أن هذه الأفكار تتماشى مع قناعات غريبر الثائرة، لكن رفض وينغرو الإجابة على سؤال مرتبط بسياسة الكتاب وقال: "أنا لا أهتم بخوض نقاشات تبدأ بِنَسْب وصفٍ معيّن إلى أي بحث. لا يحصل ذلك مطلقاً مع الباحثين ذوي الميول اليمينية".

لكن إذا ساهم الكتاب في إقناع الناس بأن نشوء "عالم آخر ممكن"، بما يشبه شعار حركة "احتلوا وول ستريت"، فلم يكن هذا الهدف مقصوداً.

في النهاية، يقول وينغرو: "لقد وصلنا إلى مرحلة من التاريخ حيث بات العلماء والناشطون مقتنعين بأن النظام القائم سيقودنا، نحن وكوكب الأرض، إلى كارثة حقيقية. من غير الإيجابي أن نجد أنفسنا في حالة شلل، وأن تبدو لنا جميع الآفاق مغلقة بسبب أفكار خاطئة حول الاحتمالات البشرية وقناعات مبنية على مفهوم خرافي للتاريخ".


MISS 3