عيسى مخلوف

نشيد المأساة الوجودية

27 تشرين الثاني 2021

02 : 00

الرسم، بالنسبة إلى الفنّان اللبناني أسادور، هو فعل وجود. وهو لا يفتأ يرسم ويعرض في باريس وفي عدد من العواصم العالميّة منذ وصوله إلى العاصمة الفرنسيّة في الستينيّات من القرن الماضي. هذا الفنّان الذي يبحث عن الخلاص من خلال تمسّكه بأشكال هندسيّة صارمة - يعبّر من خلالها عن الهدم والخواء كما كان جلال الدين الرومي يبحث عن الجوهرة تحت الأنقاض - يعمل على رقعة واسعة من التقنيات ويعتمد على الألوان الزيتية والمائيّة ويُزاول الحفر.

أقام معرضه الأول في بيروت في العام 1962، ثمّ سافر إلى إيطاليا ومن إيطاليا إلى باريس التي تحوّلت مقرّ إقامته الدائم. في هذه المدينة، وبدعوة من تجمّع الفنّانين الحفّارين، افتُتح يوم أمس معرض يتضمّن أعمالاً لأكثر من ثلاثين فنّاناً تشكيليّاً من مختلف الجنسيّات، ومن بينهم أسادور. مشاركة الفنّان اللبناني هي المشاركة العربيّة الوحيدة في هذا المعرض، وتتمثّل في أعمال منفَّذة بالغواش، وتنقل مسرحاً غرائبيّاً تحضر فيه شخوص جامدة في الزمن، كأنّها شخوص آليّة في فسحة من الصمت الذي يعقب دويّ الانفجارات الكبيرة، وتعكس صراع الإنسان مع نفسه ومع العالم من حوله. اللافت في أعماله المعروضة، وهي صورة لأعماله المنجزة خلال السنوات الفائتة، الألوان الحارّة التي تتحوّل معها المأساة الوجوديّة إلى نشيد. هذه الأعمال اختصرتها إيتل عدنان في مقال لها بالقول إنّ أسادور "يصنع العالم ويفكّكه" (Faire et défaire le monde).


محفورة لأسادور


في الوقت الراهن، يستعدّ الفنّان أيضاً لإقامة معرض استعادي كبير في شهر آذار المقبل في أحد المتاحف الألمانيّة، وكان قد تأخّر افتتاحه بسبب جائحة الكوفيد. على غرار المعرض الذي أقامه في متحف سرسق في بيروت العام 2016، لكن بصورة أوسع وأشمل، سيغطّي معرضه الجديد مرحلة مهمّة من تجربته الفنّية، منذ السبعينيّات حتى يومنا هذا، وسيحتوي على أكثر من مئة عمل فنّي تجمع بين اللوحات الزيتية والمائية والغواش والكتُب والمحفورات المتنوّعة. وهذا ما يسمح بإعطاء صورة شاملة عن تجربة لها مكانتها في المشهد الفنّي العربي والعالمي على السواء.

ينظر أسادور إلى تجربته، من البداية إلى الآن، وكأنها تجربة واحدة متّصلة من حيث منطلقاتها الأساسيّة، لكنّها ازدادت كثافة مع مرور الوقت، وأصبحت أقرب إلى الجوهر الذي يتوق هو إليه. من هذه المنطلقات، هاجسُ الوقت العابر، الخطر الذي يتهّدد الإنسان والعالم، الفَقد، الحنين إلى زمن ضائع... داخل اللوحة يعيش أسادور لا خارجها، كالعنكبوت تبني بيتها بلُعابها. وهو يحوك بيته بخطوطه الهندسيّة وألوانه التي تتحوّل، من عمل إلى آخر، ومن فترة زمنيّة إلى أخرى، وفقَ ما تعكس نفسه من حالات ومشاعر. وهو لا يزال، حتّى الآن، ينظر إلى الأعمال الفنّيّة التي ينجزها الفنانون المعاصرون فيتعرّف عليها عن كثب، ويحافظ في الوقت نفسه على التواصل الجمالي الذي بناه مع فنانين، من عصور وحقبات مختلفة، تركوا أثرهم في توجّهاته وحساسيته الفنية، ومنهم، على سبيل المثال، بيارو ديلا فرانشسكا وباولو أُوتشيلو، إضافة إلى الفنّانين الأوائل المجهولين الذين رسموا على جدران المغاور منذ ألوف السنين وتركوا بصمات مذهلة. يعتبر أسادور، هنا، أنّ إحساس الفنّان بعمله الفنّي لم يتغيّر في العمق، منذ قديم الأزمنة حتى الآن. الذي تغيّر، بالنسبة إليه، هو طريقة التعبير، لأنّ "ما يعني الفنّ هو العين التي ترى، وهو النظر لا ما يُنظَر إليه". والنظر يتغيّر وفق الأفراد والأزمنة والأمكنة وما يطرأ من تغيّرات وتحوّلات في المجتمعات البشريّة. في هذا السياق، لا يعود الفنّ التجريدي معزولاً عن الواقع، ولا يغيب عنه المشهد الخارجي الذي يمرّ في مطهر ذات الفنّان ويتحوّل إلى شيء آخر. هذا التجريد لا يطالعنا فقط في الفنون التشكيليّة، وإنّما أيضاً في الشعر والموسيقى. موسيقى مجرَّدة هي أيضاً موسيقى جان سيبستيان باخ، لكنها تُصَحّي في روح من يسمعها ألف إيقاع ولون وصورة.

ضمن هذه المناخات، يصوغ أسادور عالمه الخاصّ وفي ظنّه أنّ "الفنّ لا يتوخّى الوصول إلى شيء أو التأكيد على شيء"، ومع ذلك فهو يفضي إلى آفاق جديدة. وفي محترفه، طالما سمعته يتحدّث عن النسيان وعن الوقت الذي يمحو. "الوقت الذي يأكل الحياة"، بحسب تعبير الشاعر الفرنسي شارل بودلير.


MISS 3