خالد أبو شقرا

الناتج المحلي يتراجع في ظرف عامين بنسبة تفوق الثلثين محوّلاً التقديمات الاجتماعية مهمّة "إنتحارية"

"شِحَاذَة" على أبواب الدول لتعويض انهيار القدرة الشرائية

27 تشرين الثاني 2021

02 : 01

ستبقى الرواتب بلا قيمة مهما زادوها إن لم تبدأ الإصلاحات (فضل عيتاني)

"تَرَاجَع إجمالي الناتج المحلي GROSS DOMESTIC PRODUCT (GDP) من حوالى 55 مليار دولار في نهاية العام 2019 إلى 20.5 ملياراً"، بحسب الأرقام الرسمية التي أعلن عنها وزير الاقتصاد أمين سلام في مؤتمر غرفة التجارة الأميركية. في حين يذهب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني أبعد من ذلك متوقعاً خسارة في الناتج لا تقل عن الثلثين. مع العلم أنه من الصعب تقريش الرقم بدقة بالدولار من وجهة نظره، "نتيجة التبدلات الكبيرة والسريعة في سعر الصرف. فاحتساب نفس كمية الانتاج قد يختلف تقييمها بالدولار بمقدار الضعف بين أول العام وآخره".

دوامة التضخم

بعيداً من لغة الأرقام الجلفة فان الوضع سيئ جداً في الحالتين. فخسارة أكثر من ثلثي الناتج المحلي في ظرف عامين يعني إنهياراً هائلاً في الانتاج والخدمات ومداخيل المواطنين على حد سواء. ذلك أن الناتج المحلي هو القيمة السوقية لكل السلع النهائية والخدمات المعترف بها، والتي يتم إنتاجها خلال فترة زمنية محددة. وبحسب مارديني فان "التقهقر بالناتج ينعكس انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد، وبالتالي تراجعاً في المداخيل. من هنا لا يمكن للبلد الذي لا ينتج الثروة أن يدفعها. أمّا في حال اتخاذ القرار بزيادة الرواتب والأجور وبناء شبكة الأمان الاجتماعي في ظل هذا الانهيار، لأسباب شعبوية تتعلق بـ"التجييش" قبل الانتخابات النيابية، فهي ستؤدي إلى أمرين:

- إقفال المزيد من المؤسسات في القطاع الخاص وصرف المزيد من العمال والمستخدمين.

- طباعة المزيد من الليرات لتمويل رواتب القطاع العام نتيجة العجز في الموازنة واستمرار تراجع الايرادات.

هذا الواقع لن يؤدي إلى المزيد من التضخم وارتفاع سعر الصرف فحسب، إنما "سيدفع إلى المزيد من التقلص في الناتج المحلي"، يقول مارديني. فـ"ناتج بقيمة 30 ألف مليار ليرة مثلاً، على سعر صرف 30 ألف ليرة تصبح قيمته 1 مليار دولار. وهكذا دواليك يدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من الانهيار، حيث يترتب على ارتفاع الأسعار طباعة المزيد من الليرات وإعطاء زودات وتقديمات. وطباعة المزيد من الليرات تؤدي إلى المزيد من التضخم وارتفاع الاسعار. فنصبح أمام اقتصاد صغير بكميات هائلة من الليرات.

تسييل الدين

"دوامة التضخم ليست قدراً محتوماً، إنما هي الحل الأسهل البديل عن الإصلاح الذي انتهجته الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة الرئيس ميقاتي. فالرواتب في واقعها الحالي المقدرة قيمتها بحوالى 12 ألف مليار ليرة، ممكن تغطيتها من الفائض الأولي في الموازنة، حيث إن الواردات الضريبية ما زالت تغطي المصاريف الجارية. إلا أنه في المقابل فان كل الموارد المالية لا يمكن أن تغطي أي زيادة في الرواتب. وهي ستضاف إلى خسائر كهرباء لبنان وخدمة الدين العام الذي راكمناه بسبب الصفقات العمومية والصرف في الدولة من دون حسيب أو رقيب"، من وجهة نظر مارديني، "هذان العاملان يسببان العجز بشكل أساسي، ويحتّمان على الحكومة الاستدانة من "المركزي" بدلاً من الاصلاح وتعزيز الايرادات ووقف الفساد. و"المركزي" بدوره يُقرض الدولة من طباعة الأموال. هذه العملية الممنهجة المعروفة بـ"تسييل الدين" هي السبب الرئيسي للتضخم وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين. في المقابل فانه مع إصلاح الموازنة العامة للدولة ووقف طباعة الأموال ينخفض سعر الصرف وتنتفي معه الحاجة إلى زيادات هائلة على الرواتب والأجور".

على نقيض من الاصلاح

الحكومة تفعل عكس هذا كلياً، من خلال الاستمرار بالاستدانة. ويكفي العودة لتقرير جمعية المصارف عن شهر أيلول لنلاحظ أن الدين العام الاجمالي قد ارتفع بقمية 3916 مليار ليرة في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي (زيادة بقيمة 3194 مليار ليرة في الفترة نفسها من العام 2020)، وقد نتجت هذه الزيادة بشكل أساسي عن ارتفاع القيمة الإسمية للمحفظة الإجمالية لسندات الخزينة بالليرة، التي ارتفعت بقيمة 2475 مليار ليرة في الأشهر التسعة الأولى من العام 2021. كما أصدرت وزارة المالية في أيلول 2021 سندات فئة 7 سنوات بقيمة 131 مليار ليرة وسندات من فئة 10 سنوات بقيمة 105 مليارات ليرة بالاضافة إلى السندات من الفئات الأخرى.

الهدر مستمر

المفارقة التي لا تقل خطورة، بحسب مارديني، عن الاستمرار في الاستدانة، تتمثل في "تمرير ما بين 90 إلى 95 في المئة من الصفقات المسببة لهدر المال العام في الوزارات والمؤسسات والصناديق والمنشآت من دون الخضوع للهيئات الرقابية". هذه العملية التي تمول من تسييل الدين العام، وتسبب التضخم وانهيار الليرة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين لم توقفها السلطة رغم الانهيار، بل أوجدت لها فتوى لتستمر، فانشأت "هيئة الشراء العام" للانتهاء من إصرار إدارة المناقصات على إخضاع الصفقات العمومية للرقابة المحكمة. وعوضاً عن أن تكون هناك هيئة مستقلة لوقف الهدر، وضعوا المدير العام لإدارة المناقصات بتصرف الحكومة لمرحلة موقتة. وكأنهم يقولون له: "إذا لم تمرر الصفقات نستغني عن خدماتك ونأتي بمن يمررها"، برأي مارديني، "يساعد على ذلك تعيين رئيس واعضاء هيئة الشراء العام من الحكومة. أي من الموالين للسلطة. وذلك على عكس الاستقلالية التي كانت تتمتع بها إدارة المناقصات والتي كان من المفروض تفعيل دورها بدلاً من اقصائها".

أمام ما تقدم يظهر بوضوح أن هذه الحكومة تستكمل مسيرة سابقاتها لكن مع فارق كبير. فطباعة الأموال لتمويل الرواتب والعجوزات لم تعد باليسر المعهود إذا أرادوا "مط" الأزمة والرهان على حلول خارجية قد لا تصب في مصلحة البلد. ومع العجز عن الاصلاح والاقتراض والعودة إلى سكة النمو... لا يبقى أمام هذه السلطة إلا التسول على أبواب الدول والمؤسسات العالمية. وهذا ما يلحظه كل مسؤول أممي يزور البلد البائس مؤخراً من أجواء المسؤولين.