ريم حرب

هي عوملت كـ"ماكينة تنظيف"... وهو عمل "سخرة"

قصة سوداني وإثيوبية جمعتهما مصيبة العنصرية

4 كانون الأول 2021

02 : 00

عبد السلام وسوسنة (تصوير رمزي الحاج)
لا يمكنك أن تزور بلدة بلّونة الكسروانية، وتحديداً شارع م2-م3، من دون أن تسمع عن السوداني عبد السلام والإثيوبية سوسنة. هذا الثنائي "الملوّن" لم يخبرنا إلا القليل القليل عما يعانيه من مجتمع يجهر بذرائع وأسباب وجيهة تبرّر تهميشه واضطهاده وأبرزها أنّ الأجنبي يسرق الوظائف من اللبنانيين.


معظم النسوة في الحيّ يتحدّثن عن عبد السلام السوداني بصفته "البطل" الذي يبادر الى "إنقاذهنّ" عند حدوث أيّ عطلٍ في المنزل أو في المبنى، إضافة الى أنّه الأمين على حراسة المنازل ليلاً ونهاراً.

هو الذي يسارع الى تأمين كل ما يحتجن إليه من المتاجر. أما إذا فرغت جرّة الغاز "حين تكون الطبخة على النار"، فليس في الميدان سوى... عبد السلام، يحضر فوراً لاستبدالها بأخرى. وإذا نست إحدى السيدات شراء غرضٍ ما، يسارع عبد السلام لإحضاره وإيصاله الى باب المطبخ قبل أن تصل الوجبة الى خواتيمها.

بدورهم، رجال الحيّ يشيدون بعبد السلام الذي لا يتأخّر أيضاً عن مساعدتهم: "ما في منّو هالزلمي. مع إنه ناطور بغير بناية، بس شو ما نعوز يلبّينا، أعطال بالمي بالكهرباء بالسيارة بنقل الأغراض... بيفهم بكلّ شي".

عبد السلام على دراجته



الصورة الأخرى

لكن ما تسمعه من أهالي بلّونة عن "رجل السلام" والمهمّات الصعبة، والجاهز دائماً وأبداً للمساعدة بكلّ محبة وفرح، لا يختصر صورة الواقع المرير الذي يعيشه هذا "البطل" مع حبيبته الإثيوبية سوسنة.

وكلّما توسّعنا في البحث داخل لوحة حياتهما في وطنٍ يدّعي الانفتاح وتقبّل الآخر، كلّما اسودّت الصورة أمامنا، وطغى عليها لون العنصرية!

جاء عبد السلام عوض السيد الى لبنان في العام 2001 بحثاً عن لقمة العيش والكرامة. لكنّه حُرِم بسبب جنسيّته من افتتاح مرأبه الخاص، أو حتى من العمل مستقلاً في مهنته: ميكانيك السيارات. فاضطرّ الى العمل كأجير، لكنّ ربّ عمله لم يدفع له أجره على الرغم من الفترة الطويلة التي عمل خلالها. فانتقل عبد السلام هرباً من حياة "السخرة" في العاصمة، نحو أعالي كسروان، حيث اعتقد أنّه سيتنفّس حرية.

لكن تبيّن أنّ الحرية الوحيدة التي استطاع الوصول إليها في هذا الوطن هي حرية الحب.

فقد التقى بتوأم روحه "سوسنة"، ووجد كل منهما لدى الآخر وطناً يبحثان عنه، كما وجدا الأمان الذي يفتقدانه. وجدا الإحترام والمحبة، والنظر الى الآخر كإنسان.

عبد السلام المسلم الذي أتى من السودان، وسوسنة المسيحية التي أتت من إثيوبيا، اجتمعا في وطن الرسالة، ليجسّدا المعنى الحقيقي للبنان، بين مواطنين شوّهوا صورته.

في غرفةٍ تحت الأرض داخل موقف للسيارات في أحد المباني الفخمة، يسكن عبد السلام وسوسنة. على الرغم من كل الجراح التي تثقل كاهليهما، ناهيك عن التعب النفسي والجسدي بعد نهار عمل طويل وشاق، استقبلنا الثنائي المضياف بابتسامة من القلب.

الغرفة صغيرة، ولا تتعدّى مساحتها الأربعة أمتار مربّعة، لكنّها نظيفة ومرتّبة. زيّناها بصورهما، وبالكثير من الحب والطاقة الإيجابية.

لا نافذة في الغرفة، كونها بعيدة عن مدخل موقف السيارات، فلا يدخلها النور. لكنّ القطط التي تتجمّع أمام الباب تشي أنها تشعر بالأمان والإكتفاء الغذائي وبالرعاية التي يوليها الثنائي لتلك الحيوانات الأليفة والضعيفة الباحثة عن ملجأ.

الغرفة دافئة، تشعرك بالحب، بالتواضع والقناعة. كما يمكنك أن تستمع بين جدرانها الى أصداء الأحلام التي يتحدثان عنها قبل الخلود الى النوم، حيث ينامان منفصلين، سوسنة على السرير، وعبد السلام على كنبة صغيرة.

باستطاعتك ان تبتسم عندما تفكر في كلّ ضحكة ضحكاها حين تحدّثا عن وباء العنصرية المتغلغل في مجتمعنا، وعن المواقف التي مرّا بها خلال النهار.

التهميش مستمر



جرح لم يُختم

عند سؤالهما عمّا يتعرّضان له في الخارج، تضحك سوسنة وتشير في البداية الى أنّها معروفة باسم "بيتي"، وتوضح: "اللبنانيات اعتبرن اسمي طويلاً، فمنحوني اسماً آخر، وقد اعتدتُ عليه!"

دمعة مفاجئة تكرج بحسرة على خدّ سوسنة، لكن سرعان ما تعترضها ابتسامة لطيفة، قبل أن تفتح لنا قلبها وتتحدّث عن جرحها الذي لم يختم بعد، والذي لم يسألها عنه أحد قبل اليوم. فتتحدّث وكأنها تبحث عن دواء يبلسم أوجاعها، وتقول: "أتيتُ الى لبنان عبر شركة توظّف عاملات تنظيف أجنبيات، أي من خلال عقد عمل. وقد تعلّمتُ اللغة العربية، التنظيف، إضافة الى عادات هذا البلد وتقاليده. ثمّ رجعتُ الى بلدي بعد أربعة أعوام. لكن حين قررتُ العودة الى هُنا من جديد، فوجئتُ بالعائلة الجديدة التي استقبلتني، حيث أنّها لم تتعامل معي كإنسانة". وتتابع سوسنة بالقول: "فور وصولي، تقدّمت صاحبة المنزل مني مشيرةً نحو "التتخيتة" وقالت: هذه غرفتك.

كنت أبكي كل ليلة، حين أصعد الى "التتخيتة "عبر السلم. أحني رأسي كي لا يرتطم بالسقف، وأنام كنومة الأموات في التوابيت!

داخل مكان لا نافذة فيه، لا نور، لا هواء، كنتُ أبيت مع الحشرات، وأنتظر مع دموعي إشراقة الشمس، لأخرج من مقبرتي وأتنفّس من جديد!".

تتابع سوسنة سرد قصّتها الحزينة، وتستذكر ما تعرّضت له من تهميش وتمييز عنصري، فتخبرنا عن الأسابيع التي كانت تعمل فيها من "الفجر الى النجر"، سبعة أيام في الاسبوع من دون راحة أو عطلة. تتحدّث عن العائلات التي كانت تجبرها على تنظيف منازل كل أبنائها وبناتها وحتى منازل الأصدقاء، وتقول: "كانوا ياخدوني ويجيبوني كأني ماكينة تنظيف".

ترتجف حين تصف لنا الرعب الذي كانت تشعر به إذا خرجت ذات مرة لزيارة الكنيسة أو للقاء إحدى الصديقات، حيث تنهال عليها الإتصالات "وينك؟ وين صرتي؟".

"بابا فحمة.. انت حرامي"

بدوره، يتحدّث عبد السلام بصوت خافت وعيون شاخصة نحو الأرض، وبخجل وخوف من تداعيات حديثه ويقول: "في كتير إشيا منتعرضلها كعمال، بس ما فيني احكي ولا قول أسامي". لكنّه يؤكّد: "في لبنان هناك أشخاص طيّبون. وأنا أحبّ هذا البلد بكلّ ما فيه من جمال وطبيعة وثقافة. هناك جزء من المواطنين لا تليق بهم هذه الجنسية".

ويضيف: "البعض أرغمني على العمل من دون مقابل. والبعض الآخر يدفع الأجر ناقصاً. فيما يطلب مني آخرون أن أحضر لهم الأغراض، وعندما آتيهم بالفاتورة يصفونني بالحرامي!".

وحين أرتدي ملابس أنيقة للذهاب الى مكان معين، ينعتني البعض بأبشع العبارات مثل: "ليك هالأسود... بابا فحمة.. شو مفكر حالك؟". أو يرمون عليّ المحارم والنفايات، حتى أنهم يغسلونني بالمياه المتدحرجة على الطريق بسياراتهم!".


ضحكة سوسنة لعبد السلام



عندكم لحمة بإثيوبيا؟

تتدخل شريكة الألم سوسنة في محاولة منها كي تريح عبد السلام قليلاً، فتكمل قصّتها وتقول: "حين قرّرتُ أن أنزع عنّي غبار الموت، وأن أستعيد صحّتي النفسية والجسدية، توقّفتُ عن العمل ضمن عقود، وانتقلت الى العمل الحرّ. لكني اصطدمتُ أيضاً بعدد كبير من الأشخاص الذين لا يدفعون لي وفق اتفاقنا. واشتدّ ذلك خصوصاً مع أزمة انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع سعر الصرف. فهناك من يعتبر أنني لا أستحقّ راتبي، فلا يتردّد في حرماني منه أو التحايل عليّ لسرقة الجزء الأكبر منه".

هذا وتخبرنا سوسنة عن الذين يطلبون منها الاهتمام بأطفالهم وتحضير أطباقهم اليومية، وتنظيف منازلهم، إلا أنهم لا يسمحون لها باستعمال الأغراض الخاصة بمطبخهم كي تأكل أو تشرب. تضحك وتسأل "كيف يفكر هؤلاء؟ أنا بطبخلن بس ما باكل بصحنن!".

متحمسةً كانت سوسنة للبوح بكل ما مرّت به، فصوتها يختصر أصوات غالبية العاملات الأجنبيات في المنازل، وقد تراجعت أعدادهنّ كثيراً، وقد أملت أن توقظ معاناتها الشعور الإنساني لدى من يفتقده.

تروي تفاصيل انزعاجها من بعض الأسئلة السخيفة. وتقول: "يعتقدون أني آتية من بلد المجاعة، فيسألون بتعجب: "لديكم لحمة في إثيوبيا؟ هل يوجد من هذا الطعام؟ هل تأكلون هذا النوع؟". وهُنا تسخر الإثيوبية الجميلة المثقّفة من جهل هذا المجتمع وتضيف: "في شي بلد ما عندو لحمة؟ متل ما اللبنانيين بسافروا تيشتغلوا نحنا كمان منسافر. عادي. نحنا عنا كهرباء وما منسألكم لي إنتو ما عندكم؟".

وبالحديث عن غياب الإحترام، يتذكّر عبد السلام حادثة حصلت معه حين داسه أحدهم وأوقعه عن درّاجته النارية. وبدلاً من أن يمدّ له يد المساعدة أو يقترب كي يطمئنّ اليه، نظر إليه بتعالٍ وأكمل طريقه. ويقول عبد السلام في هذا الإطار: "نحنا بالنسبة إلن ولا شي".

"تتدخّل سوسنة وتسأل: "ولا شي؟" في كل مرة نتزّين ونخرج، ينظرون إلينا بسخرية ويقولون: ليك ليك عايشين أحسن منا. ليك شعرن ليك تيابن". وتضيف: "نحن نعمل ليلاً ونهاراً كي نعيش بكرامة. لمَ لا يحقّ لنا أن نستمتع بحياتنا؟".

وتختم بقصة قد تختصر كل حكاية العنصرية في وطننا، وتقول: "ذات مرة كنتُ أنتعل حذاءً جديداً، وحين رأته سيدة كنتُ أعمل عندها، وأيقنت أنّ لديها واحداً مثله، سارعت الى رمي حذائها الجديد المختوم، حيث أزعجتها فكرة انتعال حذاء شبيه بحذاء عاملتها".

هذا الثنائي لديه الكثير مما يُقال وما لا يقال، إلى حد أن شريحة من اللبنانيين تحمّل العامل الأجنبي مسؤولية الضغط على شبكات الكهرباء واستهلاك المياه، وأنه سبب الانهيار الاقتصادي وأزمة النفايات القديمة والمتجددة...العامل والنازح أيضاً.




MISS 3