جان كلود سعادة

دور جديد للبنان

19 كانون الثاني 2022

02 : 00

بالرغم مما يُشاع، فالتوافق موجود في لبنان وعلى أعلى المستويات.

هناك توافق تام على المناكفات السياسية والمزايدات الإعلامية وسرقة اللبنانيين والتآمرعلى حقوقهم وتجويعهم وحرمانهم الدواء والطبابة، وصولاً إلى تهجير كل من هو قادر على الهروب من هذه الحفرة.

التوافق موجود أيضاً في الحكومة، ومن معها من مستشارين ولِجان، وذلك على إيجاد طرق مبتكرة وخلّاقة لسرقة الشعب المنهوب أصلاً والجائع والمخطوف، بدلاً عن رعاية شؤونه وتحسين مستوى عيشه.

لكن ما يجب فعلاً التوافق عليه وسريعاً، هو أن دور لبنان الذي نتغنّى به قد إنتهى. نعم، هذا الدور إنتهى ولا ينفع التمسك بأسطورته لمدّة أطول.. لبنان بحاجة إلى رسم دور جديد للمئة عام القادمة ومن هذا الدور تُستوحى الخطط والمشاريع المستقبلية.

الدور الوهم

من الكليشيهات التي سمعناها على مدى عقود هي أن لبنان هو مصرف المنطقة وجامعة الشرق ومستشفى الشرق الأوسط وغيرها من المبالغات. أمّا في الواقع، فقد لعب لبنان هذه الأدوار في الماضي ولفترات محدودة ساعدت عليها ظروف وأحداث إقليمية مختلفة، لكن هذه الأدوار فُقِدت عملياً لمصلحة بلدان أُخرى في المنطقة عملت على تطوير بنيتها التحتية وخدماتها، إلى أن أصبحت أكثر جذباً للباحثين عن العمل والسكن والسياحة، بينما غرق لبنان في وحول الفشل المتعمّد.

لسنوات طويلة نشطت السياحة في لبنان، لكن حركة السياحة خفّت تدريجياً نظراً لتغيّر الظروف الإقليمية من جهة وتراجع نوعية الخدمات السياحية من جهة أخرى. أمّا ما تبقّى من حركة سياحية فيقتصر معظمها على المغتربين اللبنانيين الذين يأتون لزيارة أقاربهم.

أمّا مقولة «مصرف المنطقة» فصحّت إلى حدّ ما في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وترافقت مع الفورة النفطيّة ومرحلة التأميم والإنقلابات في البلدان المجاورة، لكنها أيضاً تراجعت مع تطوّر الخدمات المصرفية في معظم بلدان المنطقة. لكنّ هناك عاملين آخرين إستمرا في جذب بعض الرساميل إلى المصارف اللبنانية وهما، الفوائد المرتفعة التي ارتبطت بالبونزي الكبير من ناحية، والتراخي في تطبيق القوانين المتعلقة بتبييض الأموال والمضاربات العقارية أو دخول الأموال السياسية من ناحية أخرى، وهذا لا يمكن احتسابه ضمن ميزات لبنان التفاضلية بل يحسب عليه.

الدور والخيار

قد يبدو الحديث عن دور لبنان مستغرباً الآن والبلد يعاني من إنهيار نقدي وإقتصادي متعمّد وفشل سياسي غير مسبوق. إنما نهوض البلد واستعادته لمكانة فاعلة في المنطقة والعالم يعتمد على اتفاق أبنائه على رؤية جديدة ودور جديد لهذا البلد، يجمع حوله الداخل ويستقطب الدعم الخارجي، الأمر الذي يستحيل تحقيقه عن طريق الخطط الحسابيّة التي تضعها الحكومات المتتالية والتي لا يجمعها سوى التآمر على الناس وخدمة المنظومة.

لبنان بحاجة إلى صياغة «دور» للمئة سنة القادمة ونبذ جميع الأدوار السلبية التي فرضت عليه وقبلها اللبنانيون، بعضهم بالتواطؤ وبعضهم الآخر باللامبالاة.

لا نريد دور «الساحة» التي تتقاتل عليها أنظمة المنطقة وتصفّي حساباتها على حساب حياتنا ومستقبلنا.

لا نريد دور «المزرعة» التي يديرها الفساد لمصلحة جيوب امراء الكارتيل وحيث يُسرق الشعب ويُظلم ليغتني الظالم.

لا نريد دور «الشحّاد» الذي يهمل جميع مقوّماته ومقدراته ويعتمد «التسول» نهجاً وأُسلوب حياة حتى الإتقان.

لا نريد دور «السمسار» لكي لا نقول «القوّاد» المتملّق الذي يعمل لدى الآخرين على ترتيب أُمورهم وتأمين طلباتهم بدل أن يضع كرامته ومصلحته الوطنية فوق الجميع.

نريد دوراً جديداً للبنان يتخطى صِغَر المساحة ومحدوديّة الموارد الأوليّة و»الكربجة» السياسية والإقتصادية للنظام الطائفي البغيض.

لبنان بموقعه الجغرافي وانفتاح شعبه على الثقافات وقدرته العالية على فهم الأضداد وجمعها مؤهّل لأن يكون «حلقة وصل». من هنا فالدور الجديد يجب أن يتمحور حول «تقديم الحلول والتواصل» بهدف الوصول إلى حياة أفضل للشعب اللبناني وباقي الشعوب. على سبيل المثال لا الحصر، يمكن للبنان التركيز على الأمور التالية:

1- المجالات التي تقّدم حلولاً ذكية لمشاكل موجودة أو تحديات جديدة للبشرية مع التركيز على القطاعات ذات القيمة المرتفعة، كالتكنولوجيا والبرمجيات والإتصالات واقتصاد المعرفة والصناعات الدوائية.

2- الطاقة النظيفة والمتجدّدة مع تشجيع الإنتقال الى اعتماد وسائل العيش والنقل الحديثة والمشاركة في تطوير التكنولوجيات المرافقة.

3ـ التمسّك بكامل حقوق لبنان الإقتصادية في أرضه ومياهه للوصول الى استخراج الغاز والنفط واستعمالهما لتطوير الاقتصاد وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

أمّا في ما يتعلق بالزراعة والصناعة فيجب الإعتراف بمحدودية الإمكانات الوطنية من ناحية المساحات الزراعية والمواد الأولية، بهدف إعادة توجيه الزراعة والصناعة نحو خيارات جديدة وذات مردود مرتفع القيمة وأكثر قدرة على المنافسة وإدخال العملات الصعبة. نذكر هنا بعض الأمثلة كإمكانية زراعة «الكينوا» في السلسلة الشرقية أو الأزهار بدل البطاطا في سهل عكار، حيث يمكن الإستفادة من وجود مطار لتصديرها إلى دول العالم. كما يمكن التركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة التي تعتمد على الإبتكار والمهارة اللبنانية بدل المنافسة في مجالات ليس فيها ميزات تفاضلية. ونذكر هنا صناعة المجوهرات والموضة والصناعات التي تدور حول المطبخ اللبناني.

يبقى الأهمّ من كل ما سبق أن تتفق قبائل البلد على نظام يمكن إدارته بفعالية وعدالة، وليس مجموعة من العقد والتناقضات التي لا يمكن احتواؤها أو حلّها بأي شكل من الأنظمة المعروفة، والتي تؤدّي دائماً إلى حروب جديدة وإنهيارات.

الدور الجديد للبنان نريده دوراً فاعلاً في المنطقة والعالم ودوراً مؤثراً في تطوّر الحضارة الإنسانية. لكن لكي يكون ذلك ممكناً هناك مجموعة ممّن أداروا سياسة هذا البلد واقتصاده على مدى عقود والذي يجب نَفيَهُم إلى جزيرة بعيدة، أو الأصح إلى كوكب مُقفَر وراء الشمس.

MISS 3