منير يونس

6 أشهر من التخبّط والمراوحة "القاتلة" اقتصادياً

ميقاتي من فشل إلى آخر... والمسلسل دامٍ!

7 شباط 2022

02 : 00

6 أشهر مرت وحكومة نجيب ميقاتي تجر ذيول الخيبة الاقتصادية الوحدة تلو الأخرى، رغم الخطاب التطميني الهلامي لرئيسها على عادته المتفائلة ظاهراً والقلقة ضمناً. آخر الصفعات أتت من حيث قد يبزغ الأمل، تحديداً من صندوق النقد الدولي غير "الحاظي" بعد بمفاوض لبناني مسؤول مفوّض قوي شفاف معترف بعمق الأزمة، ومحاول مقاربتها بحلول جذرية لمرة واحدة ونهائية.

وفي سياق الذهاب بعيداً لمشاهدة مسلسل الفشل وقضية الصندوق المحورية والأخرى المتفرعة منها، يتعين التوقف عند جملة محطات كالآتي:

وعد بالكهرباء وها هو يتهرّب من وعوده


أولاً، بالغ ميقاتي في إيهام الناس أنه منقذهم من العتمة، وصرح في تشرين الأول الماضي أنه سيضيء لبنان بمعدل 10-12 ساعة قبل نهاية 2021 . معتمداً على وعود أميركية ومصرية وعراقية وأردنية وسورية ليوهم الناس أنه "واصل" دولياً، تفتح له مغاليق سدت بوجه غيره، فاذا بالوعود قبض الرياح في جزء منها، وفي علم الغيب في آخر. فبعد عهوده المتسرعة عاد ميقاتي وحنث بالتزامه رامياً الكرة في ملعب غيره قائلاً الاسبوع الماضي: "إما كهرباء كل الوقت وإما لا كهرباء، نحن نحتاج الى خطة كاملة وواضحة".

والأنكى أن موازنة 2022 أتت على ذكر سلفة لكهرباء لبنان أحدق بها نزاع بين الأطراف المتصارعة تاريخياً حول المسؤولية عن أزمة هذا القطاع الكارثية، وتحديداً بين حركة أمل والتيار الوطني الحر.

أما صندوق النقد والبنك الدوليين فيتفرجان بكثير من الذهول على مشهد سوريالي في وقت توقعا فيه من حكومة ميقاتي، وعلى جناح السرعة، انجاز خطة شاملة لاصلاح قطاع الكهرباء، بدءاً من الانتاج وصولاً الى الجباية بتعرفة جديدة ومروراً بمعالجة الهدر والسرقة الواصلة نسبتهما حتى 40-45%. فأي تمويل بالمليارات ينتظره ميقاتي اذا لم تعالج "نكبة" الكهرباء هذه بعيداً من وعوده العرقوبية؟

يلعب بهلوانياً على حبال الموازنة

ثانياً: في جملة تصريحات، بالغ ميقاتي أيضاً في تفاؤله بموازنة ترسم بداية خطوط خريطة الخروج من الأزمة. فقدمت حكومته مشروعاً متأخراً سرعان ما تنصلت منه جزئياً حركة أمل الراعية السياسية لوزيرالمالية يوسف خليل، بالاضافة الى "حزب الله" الذي ركب حصان شعبويته معلناً رفضه الضرائب والرسوم، فضلاً عن انتقادات من أطراف سياسية أخرى ممثلة في الحكومة أبرزها التيار الوطني الحر.

أما ميقاتي نفسه، فضاع بين هذا وذاك، راغباً في ارضاء الجميع على عادته في تدوير الزوايا، فحيناً يتبنى الموازنة وأحياناً يفتح بازار تعديل بنود أساسية فيها . تارة هناك دولار جمركي وضريبي بسعر 20 الف ليرة للدولار، وطوراً يهز برأسه لأطراف مطالبة بتنزيله الى 8 او 12 ألفاً.

هذه الموازنة التي قدمها خليل على انها "طارئة" أعدت خارج أي سياق اصلاحي شامل، غير مرتبطة بأي خطة تعاف مستدامة.

لبنان يدخل السنة الثالثة للأزمة، أما حكومة ميقاتي فتضع موازنة "طارئة" وفق تسمية يوسف خليل، كما لو أن الأزمة بالكاد تطل برأسها اليوم. انها دلالة فاقعة على استمرار الإنكار، وشراء الوقت باللجوء الى مراهم تجميلية بدلاً من جراحات تختصر جلجلة الآلام.

وفي التناقضات الفاضحة للتخبط أيضاً قول ميقاتي ان المحادثات مع الصندوق الآن "لا تشمل الموازنة"، ناقضه تصريح لنائبه سعادة الشامي "انها ضمن المحادثات" ما أكدته مديرة الصندوق أيضاً الاسبوع الماضي!

إخفاق شنيع في توحيد أسعار الصرف

ثالثاً: تعلم الحكومة أن المفاوضات مع الصندوق ستأتي حكماً على توحيد أسعار الصرف قبيل اعتماد سعر واحد مرن غير ثابت كي لا تتكرر خطيئة الـ 1507.5 ليرات للدولار. فاذا بها تبشر بأسعار جديدة كل واحد منها متصل بقطاع. "الاتصالات" ترغب في ضرب التعرفة المحسوبة على 1500حالياً بخمسة أضعاف و"الكهرباء" تتحدث عن 8 أضعاف أو أكثر لأن البنك الدولي الممول جزئياً لاعادة تأهيل القطاع يطالب بتعرفة لا تترك وراءها عجزاً في ميزانية مؤسسة كهرباء لبنان. أما الدولار الجمركي والضريبي في الموازنة فخطط له مضروباً بـ 13 ضعفاً.

أما قمة التناقض فتظهر في "ورقة" الحكومة لرد بعض الودائع الدولارية لأصحابها بالليرة (ليلرة) والتي فيها 3 أسعار: 5 و12 و20 ألفاً على مدى 15 سنة.

في الأثناء، يحاول ميقاتي التدخل في السياسة النقدية حاثاً مصرف لبنان على ضخ مئات ملايين الدولارات من الاحتياطي (ودائع الناس) لزوم تهدئة المخاوف عشية الانتخابات، ما دفع باحدى وكالات التصنيف العالمية الى التحذير من هذا الهدر للعملات الاجنبية الشحيحة أصلاً في لبنان.



راوده حلم "الليلرة" فتحول الى كابوس

رابعاً: لماذا يمكن رفض "الليلرة" بالطريقة التي يحلم بها ميقاتي وفريقه خصوصاً صديق المصارف النائب نقولا نحاس؟ لصندوق النقد جملة شروط أبرزها استدامة الدين العام، بمندرجات تعافي الاقتصاد وتحقيق النمو اللازم ليستطيع الناتج التوازي مع الدين أو يعلو فوقه.

ومن البديهي توقع تضخم "مكرسح" للإقتصاد جراء ضخ 700 تريليون ليرة في مدى السنوات المقبلة (14 ضعف الكتلة النقدية المتداولة اليوم) لدفع بعض الودائع الدولارية بالليرة، ان لم نقل انه سيشعل فتيل التضخم المفرط المستحيل معه التعافي و/او النمو الكافي للناتج القابل لاحتواء الدين العام. في هذه الحالة، الصندوق، بالقرض الذي سيمنحه للبنان، وأي مقرض آخر، أشبه بساكب ماء في غربال.

صديق المصارف لا المودعين... لا عجب

خامساً: اتصالاً بـ"الليلرة" المجحفة بحق المودعين والماحية لمعظم مدخراتهم، لا علاج ناجعاً في خطة ميقاتي للقطاع المصرفي المرجح أن يبقى "قطاع زومبي" كما يؤكد النائب السابق لحاكم مصرف لبنان والوزير السابق ناصر السعيدي. وسبب التساهل، بحسب معارضي ميقاتي، أنه صديق تاريخي لمصارف بعينها سواء في مساهمات، او تسهيلات لا سيما اسكانية مرفوعة قضايا بشأنها. علاوة على انه اكثر العارفين بقوى الضغط المصرفية المحمية سياسياً وطائفياً، لذا يدوّر "المربعات" المصلحية بشخصيته التسووية لا الاصلاحية، لكن اذا لم "يبخعه" الصندوق، فسيجد مودعين ناقمين عليه من اليوم وحتى تقوم "ناقة صالح!".

يتدخّل في القضاء.. صارفاً من رصيده الدولي

سادساً: في قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في عدة دول أوروبية كما في لبنان، وقف ميقاتي مدافعاً عن سلامة بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر عن المصارف التي فيها حسابات لرجا سلامة وربما لرياض أيضاً، حتى بات ميقاتي نفسه محط اتهام عدة اطراف داخلياً وخارجياً على أنه يعرقل سير التحقيقات القضائية المحلية المطلوبة من جهات خارجية اوروبية . والمقبل من الأيام سيضع ميقاتي في حرج كبير خصوصاً مع بدء الادعاء على سلامة في اللوكسمبورغ، وامكان التوسع في ذلك أيضاً سويسرياً وفرنسياً... والأخطر هو موقف ميقاتي اذا تطورت الأمور باتجاه توقيف سلامة في قضايا هو محل ملاحقة فيها.

كشف التسلّل في مشروع "الكابيتال كونترول"

سابعاً: فشل ميقاتي في تمرير مشروع قانون لضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) بعدما انفضح التسلل فيه لمصلحة مصرف لبنان الراغب بقوننة تعاميمه المخالفة، فضلاً عن رفض المشروع من صندوق النقد لعدم تلبيته متطلبات اساسية تطبق للضرورة في ظروف لبنان وحاجته الماسة لبقاء كميات من العملات الأجنبية فيه لفترة معينة.

لا خطة للتعافي بعد... والصندوق بالمرصاد للفساد

ثامناً: لم تقدم حكومة ميقاتي للعلن بعد خطة كاملة تضع الإطار الاقتصادي لمسيرة التعافي على أساسها يبدأ التفاوض الرسمي والجدي مع صندوق النقد.

فالى جانب الكهرباء، لا جرأة واضحة بعد في مقاربة قضية قطاع عام يطلب الصندوق تشذيبه وعصرنته وابعاده عن الزبائنية والمحسوبيات السياسية والطائفية، ويشمل الاصلاح الجراحي العميق أيضاً للمؤسسات العامة وعددها نحو 100.

وللصندوق أيضاً ملاحظات على مقاربة زيادة الايرادات وفشل منع التهرب الجمركي والضريبي والخوف من ضبط الحدود، والغاء كل اشكال الدعم وما أكثر المخفي منه، ومكافحة الاحتكار وما أشد مخالبه في الجسد الاقتصادي.

والمكتوب مقروء من عنوانه، لا سيما في مشروع الموازنة الذي تجنّب هذه العناوين الاصلاحية دافناً رأسه في الرمال. وبدا الوزير خليل اعجز من أن يدخل عش الدبابير مثل فساد المرفأ وجماركه ونقاط العبور الأخرى. وقال أكثر من ذلك مثيراً الشفقة، في مقابلة تلفزيونية، انه لا يستطيع الآن ضبط الحدود في اعتراف رسمي خطير بالأمر الواقع.

وعلى صعيد الفساد، يجدر بميقاتي قراءة التصريح الأخير لمديرة الصندوق كريستالينا غورغييفا التي أكدت "أن الصندوق لن يدعم الا برنامجاً شاملاً يعالج كل مشاكل البلاد بما فيها الفساد، والصندوق على علم بحجم الفساد". وأضافت:" وضع لبنان خطير جداً، فمن دون التزام قوي من الحكومة لتغيير المسار ستستمر معاناة الشعب اللبناني. والى الآن ليس لدينا نتائج دقيقة (مع هذه الحكومة)".

الصندوق يسمع للمجتمع المدني

تاسعاً: قالت مديرة الصندوق "إن البرنامج مع لبنان بحاجة الى دعم الجميع... المجتمع والناس العاديين". تعلّم الصندوق من تجاربه مع دول أخرى. فلا مفر من تمرير الشروط والاصلاحات في نقاشات سياسية وشعبية ونقابية ومع المجتمع المدني. لذا، على سبيل المثال لا الحصر، استقبل رسائل من الخبراء روي بدارو وهنري شاوول ومارغريتا شامي، ومن منظمة "كلنا ارادة"، وهناك رسائل من نقابة المهندسين فضلاً عن اللجنة المنبثقة من نقابة المحامين المكلفة متابعة حقوق المودعين.

فاذا كانت المنظومة السياسية لا سيما حركة أمل "تمون" على الاتحاد العمالي العام واتحادات النقل البري ونقابات عمالية أخرى، فلبنان يضج بمجموعات ضغط مطلبية أخرى مستقلة أكثر صدقية في المجتمع المدني، صوتها يعلو بقوة منذ ما بعد انتفاضة 17 تشرين. يتابع صندوق النقد ذلك بشكل حثيث، لا بل في مكان ما يشجعه كما تشجع دول غربية أخرى وجود "سلطة" بديلة أو "سلطة ظل" لاقامة توازن ما مع المنظومة الحاكمة المتهمة بالفشل والفساد وسوء الادارة، فضلاً عن التسلط بالميليشيات والسلاح المهدد للسلم الأهلي في أي لحظة.

اهتمام الصندوق بالأصوات غير الحكومية يندرج أيضا ضمن رغبته في رؤية شبكة حماية اجتماعية. فلا نجاح أكيداً لأي برنامج من دون الحد الاجتماعي الأدنى. المرحلة تتطلب "ًتوزيعاً للآلام" كما سماها الاقتصادي روي بدارو. والمقصود، ان من يضحي من القاعدة (تحت) يرغب في رؤية تضحيات من الطبقات الأعلى لينتظم شلال الأحمال والخسائر بعدالة ما.

بين «شاقوفين»... عون وبري

يهادن ميقاتي رئيس الجمهورية ميشال عون لعدة أسباب من بينها المادة 52 من الدستور القاضية (افتراضاً نظرياً) بأن الرئيس يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة ولا تصبح مبرمة الا بموافقة مجلس الوزراء لتحال بعدها الى مجلس النواب اذا كانت تحتاج لقوانين. وفي النقطة الأخيرة تتعين مهادنة رئيس البرلمان نبيه بري.

فأي اتفاق يمكن أن يرجوه ميقاتي مع صندوق النقد يتطلب تفاهماً عليه مع رئاسة الجمهورية التي وضعت نصب عينيها جملة عناوين تزعج ميقاتي مثل ملاحقة رياض سلامة وانجاز التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. فصحيح أن صندوق النقد لا يعبأ كثيراً بـ «الجنائي» لكنه يريد التدقيق حتماً لمعرفة حجم الفجوة وأسبابها والمساهمة في كيفية تجنب تكرارها. أما مهادنة بري فدونها ما قد لا يستطيع ميقاتي مجاراته لا اليوم ولا غداً! فهل يعترف؟ يعتذر؟ أو يعتزل؟



MISS 3