لمياء المبيّض بساط

لكَ المالُ العامّ... هل تَعرِف كيفَ يُصرَف؟

"موازنة المُواطِنة والمُواطن" إنجازٌ في إيجاز

16 تشرين الأول 2019

00 : 11

أن نبسّط الأشياء التي لَطالَما اعتَبَرناها معقَّدَة، هذا هو الهَدَف الأساس لِـ"موازَنَة المُواطِنَة والمُواطِن".

إحتَدَم الجَدَل وتشعّبَ النقاش حول موازنَة العام 2019 في المجلس النيابي، وتابَع المواطِنون كلّ هذا المسار في ظل بعض الإلتباس الذي تَركهم بين نصف المعرفَة ونِصف اليقين.

أكثر من ألف صفحة من النصوص التقنية والأرقام والجداول والرسوم البيانيَّة، كلّها تحدد مَصير حياتِنا اليوميَّة بيدَ أنها بقيت بالنسبَة للأغلبيَّة الساحقة مسألَة شائِكَة، معقَّدة وعصيّة على الفهم اليَقيني.

الكلّ يعلَم أنَّ قراءة الموازَنَة بالنسبة لعامَّة الناس هي مسألة تمسّ بالجوهر والأساس لا بالمَظاهِر والقشور، لا لشيء إلا لأن ماليَّة الدولَة ليست سِوى أموال الناس وقد أودَعوها أمانَة بين ايادي المسؤولين الذين يتوجب عليهم في المقابِل ان يقدِّموا لِمَن إئتَمنوهم ليمارسوا السلطة كل ما يلزم لتحقيق الشفافيَّة والمِصداقيَّة والوَضوح.

إنها لمسؤولية كبيرة على الدولَة أن تلتزم بِموازَنَة شفافة وواضِحَة ومبسَّطة تتيح للمواطِن العادي الإطلاع عليها ساعَة يشاء.

ولا بدّ من الإعتراف أن الولوج إلى عالَم الماليَّة العامَّة لم يكن يَوماً بالأمر السَّهل وأن مفردات ولغة الموازَنَة تحتَوي على تَعقيدات جمَّة غالباً ما تشكِّل العنصر الأساس في إحباط أي محاولَة لتبسيط لغة المال والأرقام.

إنه لإنجاز مهمّ أن تنجَح وزارَة الماليَّة في لبنان وللسنَة الثانية على التوالي في رَفع التحدّي وفي إصدار "موازنة المُواطِنَة والمُواطِن للعام 2019" والتي تشكِّل مرحلَة مهمَّة وقفزَة نَوعيَة عَلى طَريق شفافيَّة الموازنَة في لبنان.

هذا المستند المبسَّط مُتاحٌ باللغات الثلاث العربيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة عَلى الموقعين الإلكترونيين التابِعَين لِوزارَة الماليَّة ولِمعهد باسِل فليحان المالي والإقتصادي وبالنسخَة الورقيَّة في المكتبَة الماليَّة الكائِنَة في مبنى المَعهد الكائن في كورنيش النّهر في بيروت. باستِطاعَة القرّاء أن يزوروا مكتبَة المعهَد خلال ساعات العَمل. دخولُها مجّاني، مراجِعها بالآلاف ومتاحَة لكل باحِث وطالِب عِلم.

الخطوة هذه تترجِم الإلتزام المستمرّ لوزير الماليَّة عَلي حسَن خَليل بنشر وتَوزيع كلّ المَعلومات الماليّة والضريبيّة كما تلك المتّصلة بالموازنَة. أذكر من هذه المَعلومات الفرضيات الإقتصاديَّة التي أسّست لِموازَنَة 2019، الوضع الحالي للماليَّة العامَّة، توقّعات النموّ الإقتصادي والتضخّم، توقّعات العَجز والدَّين العام، شروحات حول طبيعَة المال العام وعائِدات الدّولة، شروحات وافية حول كيفية إنفاق المال بحسب التصنيفات الإداريّة أي عَلى الوزارات والمؤسسات المستقلَّة وغيرها، وبحسب التصنيفات الاقتصاديّة أي الرواتِب والبُنَى التّحتيَّة والوظيفيّة ما يشمل أبواب الإنفاق على الطبابَة والتربيَة والبيئَة والتغطيَة الصحيَّة وما سِوى ذلك.

بإختصار، أتى هذا الإلتِزام من جانِب وزير الماليَّة، كتعهّد وطني بالدرجة الأولى للشعب اللبناني الذي هو أولاً وأخيراً مصدر السلطات في بلدنا ويَعود إليه حق الإطلاع والحُكم والرأي والمُطالبَة والمساءلَة والمحاسبَة.

في الماهيَّة والحاجَة

الإطلاع على مستندات الموازنَة الأساسيَّة بِدءاً بمشروع الموازنَة الذي يصدر عن الحكومَة مروراً بكل الوثائِق والتقارير بِما فيها تقارير المحاسبة والتدقيق، كلّ هذا يُعَدُّ غِذاءً ذهنيّاً وفِكريّاً للمواطِنين حتى يرتوي ظمأهم فيحصَلون على صورة واضِحة كامِلَة متكامِلَة عَن الطريقَة التي تعتمدها الحكومَة من جِبايَة وصرف الأموال التي هي أولاً وأخيراً أموالهم هُم أي أموال الشعب التي نطلِق عليها تِقنياً إسم الأموال العامَّة.

مِن دون تَوفير مَدخَل مبسَّط لهذه العمليَّة، تَبقى هذه الكميَّة الهائِلَة من المستَندات المنشورَة متاهَة للفَهم لِما تَحتويه من أرقام وبيانات ومفردات تقنيَّة يصعب إن لَم نقل يَستَحيل على القارئ العادي أن يَفهَمها.

الوصول إلى المعلومات ليس شرطاً كافياً. يَجِب أيضاً إبتِداع لغة ميسَّرَة يستسيغها القرّاء وتَسمَح لَهم بإبداء الرأي والتواصل رفضاً وقبولاً وبالتالي أن يتحوّلوا إلى شركاء حقيقيين لا إفتراضيين في المعرِفَة كما في تَحديد مَصير حَياتِهم في الوطن الذي ينتمون إليه والدولَة التي تَرعَى شؤونهم.

إن إصدار "موازنَة المُواطِنَة والمُواطِن" أدّى أيضاً إلى تَغيير نَمَطي في مقارَبَة المسؤولين للتسميات والمفردات التي تعوّدوا على استِعمالِها فصارَ لِزاماً عليهم أن يخلقوا ويطوّروا بِإستمرار مقاربات تبسيطيَّة تسمَح للناس بتلمّس المَفاهيم وفهم المَعلومات وتفهّم المقاربات.

هذا الجهد تطلّب حُكماً الإستثمار في البنية التحتيَّة التكنولوجيَّة المتخصصة بِجمع ونشِر المعطيات كما استَدعى تَدريباً مُستَداماً على كيفيَّة الجَمع بين التقني والمبسَّط والمعقَّد والمسهَّل والنخبوي والشّعبي.

مِن هذا المَنظور يمكن إعتبار "موازنَة المُواطنة والمُواطِن" أحد أهم المستَندات المتعلّقة بالموازنة لأنها الوَحيدة التي أُعِدَّت خصّيصاً للعامَّة مِن غير أهل الإختصاص.

لا حَوكَمَة رشيدَة من دون ثَقافَة ماليَّة

لَم أجِد أكثَر مِن كَلِمات الماهاتما غاندي لإستَرشِدَ بِها لتَحديد ماهيَّةِ الديموقراطيَّة. يَقول غَاندي: "الديموقراطية هي فن وعلم إستِغلال كل الموارد المادية والاقتصادية والروحية لجميع السكان بمختلَف طبقاتِهِم وتَعبِئَتِهِم لخدمة الصالح العام".

الحكومات مسؤولة أمام مواطنيها عمّا تفعله وتكتبه وتقرّه وتعتمده من قوانين وأنظِمَة وأعراف. وهي مسؤولة أيضاً عن الطريقَة التي تقدّم فِيها كل هذه المستَندات ومِن بينِها الموازنَة لأنها المستند الذي يكشف أكثَر مِن غيرِه سياسة الحكومَة.

منذ أكثر من عشر سنوات عَمدَت جمعيات وقوى متعددة في المجتمع المَدَني من بينِها INTERNATIONAL BUGDGET PARTNERSHIP إلى إعداد ونشر أدلّة مرجعيّة حول علم صياغَة موازنات المُواطن بِهدف شرح كيفية إنفاق المال العام وإتاحَة الفرصَة للمواطِنين لِتفعيل شَراكَتِهم مع الدولَة في إدارَة الشؤون العامّة. نذكر من بين الحكومات التي اضطلَعَت بدور طليعي في هذا المَجال حكومَة السلفادور، غانا، الهند، نيوزلندا، جنوب أفريقيا، المَغرِب، تونس، مصر والأردن.

أهمية موازنة المُواطِن تكمن في أنه تمّ الإعتراف بها من صندوق النقد الدولي في العام 2007 في كتيِّب خُصِّصَ لشفافية المالية وفيه يؤكد الصندوق أنه ينشر " دليلاً واضِحاً ومختصراً حول الموازنَة يجب نشره بكثافَة بالتزامن مع مناقشة الموازنات العامَّة".

أداة أمينة وثَمينة

لَم يعد هناك من شكّ أن نشر وتوَزيع موازنَة المُواطِن تؤهل المواطِنين للمشارَكَة في القضايا السياسية كَما في السياسات الماليَّة والضرائبيَّة.

هذا لا يَعني أن المصلَحَة غير متبادَلَة. موازنَة المُواطِن حاجة ضرورية أيضاً للحكومات لأنها تسمَح بتوضيح أفكارِها بالنسبة إلى كل مندرَجات الموازنَة. مِن هنا نستطيع الإستنتاج أن نشر هذا المستند بشكل مستدام يشكّل أداةً أمينَة وثمينة للمجتَمَع برمّته.

ولا بدّ من التذكير أيضاً أن مستندات شبيهَة توزَّع على مستوى المدن والبلديات حيث باتت أكثر من ألف مَدينَة في العالَم تعتمد على هذا المستند بهدف تثبيت إلتزام الناخِبين وتثقيف السكان منهم وضخ المَزيد من التعاون بين مختلف مكوّنات المَدينَة.

تسلّق المعدّلات والمرتبات الدوليَّة

لبنان ينال 3/100 على مِعيار الشفافية المالية وهو معيار تم نشره عبر OPEN BUDGET SURVEY (مسح الموازنة الشفافة) وذلك في مقابل معدّل دولي عام يبلغ 42/100 وذلك بسبب توقّف إصدار الموازنات لفترة طويلة وعدم الإنتظام المالي، علماً أن دولاً أخرى من الشرق الأوسط وشَمال أفريقيا حصدَت معدّلات أفضَل نذكر من بينِها الاردن (63/100) والمغرِب ( 45/100).

على سبيل المثال نذكر أن موازنة المواطِنين التي نُشِرَت لأول مرّة في مصر عام 2010 سمحت لهذا البلد أن يحقق قفزَة نوعيَّة في مرتَبَتِه على " مِعيار الموازنات المَفتوحَة" حيث تطوّر من معدَّل 13/100 في العام 2012 إلى 41/100 في العام 2017.

بالطّبع ليس الهدف في لبنان تطوير هذا المعدَّل بقدر ما المطلوب تحقيق الشفافية والمصداقيَّة والثقة، وعلينا الإعتراف أن قوانين الماليَّة العامّة التي تعود إلى أكثَر من ستين سنة لا تتيح مشارَكَة المواطِنين في القرارات الحكوميَّة الماليَّة.

عندما انعقد مؤتمر سيدر تجددت التزامات الحكومَة اللبنانيَّة بإعتِماد إصلاحات أساسية وبالأخص في مَجال الموازنَة والشراء العام ومن الطبيعي أن تَكون شفافيّة الموازنَة ركناً أساساً من أركان الإيفاء بالوعود والإلتزامات.

مسؤوليَّة طَرَفين

أصدَر وزير الماليَّة علي حسن خَليل القرار 1/110 في 4 آذار 2019 أوكَل بموجَبِه مهمة صياغَة " موازنَة المُواطِنَة والمُواطِن" إلى معهد باسل فليحان المالي والإقتِصادي واعداً بالإلتزام بإشراك المواطِنين في الإطلاع على أحد أهم المستندات التي تصدر عن الدولَة، كما خطا خطوة نوعيَّة بإتجاه تَفعيل الشفافيَّة والمسؤوليَّة.

إصدار هذا المستند بلغة ميسَّرَة وإخراجٍ مُتاح للمواطِنات والمواطِنين كان بالنسبة إلينا تحدّياً كبيراً استَطَعنا أن نواجِهَه بالعَمَل الدؤوب وبالإستئناس بالمَعايير والأساليب والمفردات التي سبقتنا دول كثيرَة في اعتِمادِها.

كان التلقين الميسَّر الذي أتاحه "مركز الدعم التقني لصندوق النقد الدولي" و" الشراكَة الدوليَّة للموازنات" IBP أثر كبير حيث كانت الجَداول والصّوَر مَدخلاً جَعَلنا نستَخلِصُ المَعلومات- المَفاتيح تَمهيداً للشروع بالصياغَة والكِتابَة والإخراج.

وَيبقى التحدّي الأكبَر أن نَرى المجتَمع المَدَني يتشرَّب هذه الثقافَة ويتعاون مع معهدِنا فينشر هذه الموازنَة الميسَّرَة للعام 2019 بالتعاون مع كل وسائِل الإعلام حيث لا جدوى من الكِتابَة والصياغَة من دون إستِعمال هذه الأداة ونشرِها وفَهمِها وإستِعمالِها للمراقبة والمحاسَبَة والتطوير.



(*) رئيسَة معهد باسِل فليحان المالي والإقتصادي - وزارة الماليَّة
www.institutdesfinances.gov.lb


MISS 3