د. نبيل خليفه

دول الغرب الكبرى الثلاث بريطانيا وفرنسا وأميركا ومهمّة ترسيم حدود لبنان الجنوبية... برًّا وبحرًّا!

12 شباط 2022

02 : 01

الدكتور نبيل خليفه

يغيب عن بال الكثيرين من اللبنانيّين وهم يقاربون اليوم موضوع ترسيم حدودنا البحريّة مع اسرائيل ودور الوساطة التي يقوم بها الأميركيون في هذا المجال، الدور الذي لعبته كل من فرنسا وبريطانيا في العشرينات من القرن الماضي، ولدى قيام دولة لبنان الكبير، بالتفاهم على ترسيم الحدود البريّة الجنوبيّة بين الدولتين المنتدبتين من الأمم المتحدة على كل من لبنان وفلسطين. وهوالاتفاق الشهير الذي عُرف باتفاق سايكس- بيكو (1923). ووافقت عليه عصبة الأمم العام 1934.

هذا الاهتمام الدولي بمنح الشرعية الدوليّة للكيانيّة اللبنانية ليس مجرّد تفصيل، أو مسألة عارضة أو صدفة سياسية تاريخيّة. بل هو معيار تاريخي حاسم لمدى ونوعيّة وأهميّة هذا الوطن الصغير على خريطة العالم. في هذا السياق، يشار الى زيارة الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين الى لبنان هذا الاسبوع لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين لبنان واسرائيل لترسيم الحدود البحرية الجنوبيّة.

فما هي الملاحظات التي يمكن، بل ينبغي، ايرادها حول هذا الموضوع من مختلف جوانبه؟

1 - ان مرجعيّة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان واسرائيل تعود بشكل قانوني الى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (1982) وهو قانون صادر عن الأمم المتحدة ويشمل جميع بحار العالم وحقوق ومستلزمات جميع الدول المشاطئة لهذه البحار ومنها لبنان واسرائيل.

2 - نسارع الى القول، بل التأكيد أن اسرائيل، لم توقّع حتى تاريخه على قانون البحار هذا (1982) ويبدو أنه من الصعب وربما المستحيل ان توقّع عليه لأسباب سنعود اليها لاحقًا. وإن كانت معروفة سلفًا!!

3 - واذا كان ترسيم الحدود البريّة، على وضوحها، صعباً، فما القول في ترسيم الحدود البحرية الممتدّة فوق آبار من النفط والغاز في مياه البحر المتوسط وداخل صخوره وضمن المناطق الاقتصادية الحصرية (ZEE) لدُولهِ في جهة الشاطئ الشرقي منه وتحديداً أمام شواطئ مصر واسرائيل ولبنان وسوريا وقبرص.

4 - ان حدودنا البحرية، كونها جزءاً من حدودنا الكبرى، هي امتحان صارخ لوجودنا السياسي ككيان ودولة. ولطالما كانت مشاكلنا في هذه المنطقة من العالم مع جيراننا، مشاكل حدوديّة ذلك ان الحدود، جميع الحدود هي غلاف جسم الدولة ومعيار سيادتها فهي تشكّل الطرف الأرضي – البحري والجويّ للدولة وهو ما يسمح للدولة بالمحافظة على ثرواتها فوق الأرض وتحتها.

5 - تبلغ مساحة المنطقة الجغرافيّة البحريّة لشرقيّ المتوسط 83000 كلم2 ويقع الخلاف بين دول المنطقة حول حصة كل بلد فيها. وهذا هو واقع الأمر بين لبنان واسرائيل، وهما الدولتان المتجاورتان على الشاطئ الشرقي للمتوسط. ولدى كل منهما منطقة اقتصادية حصرية (ZEE) ويمكن لكلّ منهما ان يستغلّ الثروات المتواجدة في مناطقه الحصرية بما فيها النفط والغاز. على ان الخلاف بين لبنان واسرائيل ينتقل الآن من حدود الدولة الى حدود المنطقة الاقتصاديّة لكل منهما: اين وكيف يلتقيان ويفترقان. في البحر وليس على اليابسة. وكيف تحاول اسرائيل ان تستولي على قسم من المنطقة الحصرية للبنان لاستغلال ثرواتها!

6 - بحسب قانون البحار (1982) تمتد المنطقة الاقتصادية الحصرية الى 200 ميل بحري عن الشاطئ (نحو 270كلم) فإن كانت هذه المسافة غير متوفرة لوجود شاطئ مقابل، وهذه هي حال قبرص قبالة لبنان واسرائيل، فهي على بعد 200 كلم فقط، نصّ قانون البحار على اعتماد خط نصفيّ (LigneMédiane) بين الشاطئين وهو هنا على بعد 100 كلم من الجانبين ويشكّل الغلاف الخارجي لكلّ منهما. ويمتد من حدود لبنان مع سوريا شمالاً مقابل النهر الكبير وصولاً الى حدود اسرائيل مع مصر جنوباً بطول 309كلم.

7 - إذا كانت الحدود البريّة تشكّل، ويمكن ان تشكّل، فاصلاً بين كيانين سياسيين (بين دولتين) فان ما هو تحت الأرض لا يعرف هذه القسمة وهذا الفصل. هذا لا ينطبق على البئر النفطية ولا على الغرفة الغازيّة وتتعقد الاشكاليّة هنا: كيف يمكن، وهل يمكن قسمة الحصص النفطية – الغازيّة بشكل صحيح وسليم، وكيف يمكن الوصول الى حلّ يحفظ الحد الأدنى من حصص ومصالح الطرفين؟

8 - هذه هي الاشكالية الكبرى التي يسعى الموفد الأميركي آموس هوكشتاين منسق شؤون الطاقة الدولية والمكلّف من الإدارة الأميركية، بعد السيد فريديريك هوف، لايجاد حل مقبول من الطرفين الاسرائيلي واللبناني حول الحدود البحرية في جنوب لبنان. ويقال ان الموفد الأميركي حمل الى لبنان جواباً من الجانب الاسرائيلي حول طروحات لبنان، ولديه بالتأكيد ما يبديه من آراء ومواقف حول هذا الموضوع. وتتهم اسرائيل لبنان بأنه بدّل مواقفه أكثر من مرّة حول حدوده البحريّة الجنوبيّة: من الرقم 1 الى 23 الى 29.

9 - ان تواجد النفط والغاز على جانبي الحدود اللبنانية –الاسرائيلية لا يظهر في مكان واحد بل في ثلاثة أماكن ... ثلاثة آبار هي: كاريش وليفيتان وتامار. والانقسام النظري للآبار يختلف بين واحد وآخر في انتمائه للأرض اللبنانية او الاسرائيلية تبعاً لخط الحدود الفاصل بين الحيّزين الجغرافيّين. المهم جداً في هذا المجال هو القدرة على تقدير علمي وصحيح لمحتويات كل من هذه الآبار لكي في ضوء ذلك، يمكن طرح حلول معقولة لاقتسام هذه الثروات بشكل فيه شيء من عدالة التوزيع بين الجانبين وذلك تبعاً لتواجد حجم البئر في نطاق المنطقة الاقتصادية الحصرية لكل منهما! وفي هذا المجال، ينبغي التنبّه الى ميل لدى المؤسسات البحثيّة والاحصائيّة الغربيّة الى الميل الدائم نحو المصلحة الاسرائيلية!!

10 - بعد المفاوضات الكارثية بين لبنان وقبرص عام 2007. سعت السلطات اللبنانية الى استدراك خطأها في ترسيم حدودها البحرية عند النقطة 1، وعملت على تصحيح الخطأ بخطأ جديد كالعادة وهو اعتبار ان لها في المساحة البحرية الى حدود النقطة 23، ما يساوي 860 كلم2 اضافية. وبين العامين 2010-2012 سعى المفاوض الأميركي السابق فرديريك هوف الى حلّ يقسِّم هذه المساحة بحسب «خط هوف» الى قسمين بنسبة 55% للبنان و45 % لاسرائيل وهو ما رفضه الجانب اللبناني.



الخط 29 وخط هوف



11 - في سياق الصراع على ترسيم الحدود البحرية الجنوبيّة بين لبنان واسرائيل وتوضيحا للموضوع على ضوء المعطيات العلميّة، دعاني رئيس لجنة الاشغال العامة النائب محمد قباني الى جلسة للجنة أشرح فيها بشكل علمي مسألة ترسيم حدودنا البحريّة مع اسرائيل. وقدعُقدت الجلسة بتاريخ 30/4/2013 بحضور النواب وممثلي وزارتي الخارجية والطاقة وكبار ضباط الجيش المعنيّين بمسألة الحدود برئاسة اللواء شحيتلي وقد قدّمت للسادة الحاضرين عرضاً للموضوع من مختلف جوانبه مدعماً بالخرائط على الشاشة. يومها اعتبر عرضي بمثابة انقلاب على الطرح الحكومي حول حدودنا البحرية وان ما يستحق للبنان ليس 860كلم2 فقط بل أكثرمن ذلك بكثير. والتحديد النهائي يرتبط باعتماد النقطة 61% من خط الوسط بين لبنان وقبرص وربطها برأس الناقورة.

12 - في هذا السياق التصحيحي العلمي قامت بعد ذلك اجتهادات لمسؤولين مدنيّين وعسكريّين استقرت في العام 2020 على اعتماد النقطة 29 وزيادة في المساحة تبلغ 1430 كلم2 بالاضافة الى 860 كلم2 اي ما مجموعه 2290 كلم2 هي جزء من مساحة المنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان في المتوسط تشكّل جزءاً من حقوقه البحريّة. واعتبارها بالتالي منطقة متنازع عليها. ولقد استبق لبنان وصول المبعوث الأميركي هوكشتاين بايداع رسالة الى رئاسة مجلس الأمن الدولي تمثل اعلاناً رسمياً بنقل التفاوض في موضوع الحدود البحرية اللبنانية – الاسرائيلية من الخط 23 الى الخط 29 ويأتي هذا الابلاغ أيضاً بمثابة رد على الرسالة الاسرائيلية الى المجلس والتي تعترض على دورة التراخيص اللبنانية الجديدة في المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان. والجديد والمهم في رسالة لبنان الى مجلس الأمن انها تمت بناءً على توجيهات من رئاسة الجمهورية التي تحتفظ بحق تعديل المرسوم رقم 6433 الموجود لدى رئاسة الجمهورية في حال المماطلة وعدم التوصّل الى حلّ عادل بين الفريقين. وهو ما ينبغي ان يأخذه المبعوث الأميركي بالاعتبار.

13 - باختصار، يمكن القول، وربّما التنبؤ، بأن مهمة الوسيط الأميركي هوكشتاين، هي في مواجهة المعطيات والتحديات التالية:

• ان لبنان لم يعد جزءاً من استراتيجيّة كيسنجر اليهودي، أي أنه «بلد يمكن الاستغناء عنه»، بل هو في ذهن الرئيس الأميركي الكاثوليكي بايدن عبر البابا فرنسيس «بلد لا يمكن ولا ينبغي الاستغناء عنه».

• ان علماء ترسيم الحدود وعلى رأسهم الباحث ميشال فوشيه يرون ان الترسيم خاضع لاعتبارين، لا ثالث لهما هما:

- الحق

- والقوّة.

• ان العالم يواجه الآن أزمة طاقة ناشئة عن الصراع في أوروبا بين روسيا وحلف الأطلسي حول الأزمة الأوكرانية وتهديد روسيا بقطع الغاز عن اوروبا، وسعي اميركا والغرب لايجاد البديل، من الخليج وقطر تحديداً وصولاً الى غاز شرقي المتوسط!

• ربّما يكون في جملة العروض على لبنان حقل كاريش من جانب ودخل سنوي من حقلي تامار وليفيتان، قد لا يصل الى ما توقعته صحيفة الايكونوميست البريطانية وفيه «أنه سيكون للبنان حصة من تامار وليفيتان بقيمة 4 مليارات دولار سنويًا» (السفير 29/6/2011).

• ان هوكشتاين يمكن ان يستفيد الى الحد الأقصى، من الأجواء المضطربة دولياً، للاستفادة الى الحد الأقصى من مستلزمات الهدوء والسلام التي يفرضها التعاطي مع موضوع النفط والغاز بحيث يتجنّب كل امكانيّة ولو بسيطة، لإثارة الاضطراب والقلق بما ينعكس سلباً على عملية استخراج النفط والغاز: على الحفر والانتاج والتصدير!

.. فهل سيتمكن هوكشتاين من القيام بما لم يستطعه هوف؟

..لعل وعسى؟!

(*) باحث في الفكر الجيو- سياسي


MISS 3